تجيد إيران "حياكة" الأدوار والسيناريوهات التي ترغب في تصديرها للعالم، ولأن طهران تدرك جيداً أن الدور آت عليها وعلى أذرعها الميلشياوية الإرهابية في لبنان واليمن والعراق في مرحلة مابعد غزة، حيث يتوقع أن تتجه إسرائيل لمحاسبة إيران على مسؤوليتها عن دعم وتمويل الأذرع الميلشياوية الإرهابية التي تهاجم إسرائيل والولايات المتحدة منذ السابع من أكتوبر الماضي، فإن هناك تسريبات إعلامية متوالية ومكثفة بشكل لافت للانتباه تتداولها تقارير عدة حول حدود مسؤولية إيران عن قرار "حماس" شن هجمات ضد إسرائيل في السابع من أكتوبر الماضي. وقد بدأت هذه التسريبات بتقرير تناول فحوى اللقاء الذي جمع بين المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي واسماعيل هنية، في طهران في الأسبوع الأول من نوفمبر
الجاري، وذكر التقرير أن خامئني أبلغ هنية أن إيران لن تتدخل في الصراع لأن "حماس" لم تبلغها مسبقاً بقرار الهجوم على إسرائيل، وهو التقرير الذي نفته إيران و"حماس" جملة وتفصيلاً، وقالت الحركة، في بيان نشرته على حسابها على منصة "تلغرام": "تعليقا على ما أوردته وكالة رويترز للأنباء حول لقاء إسماعيل هنية، مع علي خامنئي قائد الثورة الإسلامية في إيران، فإننا ننفي صحة ما ورد في هذا التقرير، ويؤسفنا نشر خبر لا أصل له، وندعو الوكالة لتحري الدقة"، دون ذكر أي تفاصيل أخرى. وكانت الوكالة قد نقلت عمن أسمتهم ثلاثة مسؤولين "كبار" من إيران و"حماس" قولهم إن المرشد الإيراني وجه رسالة واضحة لهنية عندما التقيا، ومفادها أنه وبسبب عدم إبلاغ الحركة لإيران بهجوم السابع من أكتوبر الماضي فإن إيران لن تدخل الحرب نياية عن حماس". التقارير الإعلامية ذكرت أيضاً أن اللوم الذي وجهه خالد مشعل، إلى "حزب الله" وضمناً إيران، منتصف أكتوبر الماضي حينما قال "إن حزب الله قام مشكوراً بخطوات لكن تقديري أن المعركة تتطلب أكثر، وما يجري لا بأس به ولكنه غير كاف"، ورأى أن المطلوب أكثر من "طوفان" وأن التاريخ لا بـ"الخطوات المحدودة الخجولة المترددة" بل بـ "المغامرات المدروسة"، هذا اللوم قد اغضب المرشد الإيراني الذي وجه بإبلاغ مشعل بأن يلزم الصمت ولا يتحدث في الموضوع مجدداً، "لأن إيران تعرف ماذا تفعل وكيف تتصرف"، وبالفعل لم يظهر مشعل في أي تصريح إعلامي بعد ذلك حتى الآن.
هذه الرواية لم تكن الوحيدة في سلسلة التشكيك في مسؤولية إيران عن هجوم "حماس" الإرهابي، فهناك مصادر إعلامية أمريكية عدة مهمة نقلت أيضاً عن مسؤولين من إيران و"حزب الله" أن هجوم "حماس" كان مفاجئاً لهم ، ولم يكن لديهم أي علم مسبق بهذا الهجوم، الذي تكتمت الحركة تفاصيل التوقيت والحجم والهدف.
مجمل هذه الروايات المتزامنة تصب في مصلحة أطراف عدة أولها بطبيعة الحال إيران و"حزب الله" اللذان يرغبان في الاكتفاء بالظهور الإعلامي والدعائي في مشهد صراع غزة من دون أن يدفعا تكلفة استراتيجية قد تقود إلى تدمير قدرات الحزب وتعرض النظام الإيراني لضربة إسرائيلية قوية بضوء أخضر أمريكي ـ أوروبي، وثاني هذه الأطراف هو الولايات المتحدة التي لا تريد تحميل إيران مسؤولية قرار "حماس" لأن من مصلحتها التكتيكية إبعاد إيران عن دائرة المسؤولية في هذا القرار، لأن ربط طهران بالهجوم على إسرائيل يعني إسدال الستار على موضوع إحياء الاتفاق النووي الإيراني بشكل نهائي، فضلاً عن تعرض الإدارة الأمريكية الحالية لضغوط من الداخل (الجمهوريين) وإسرائيل للانتقام من إيران أو على الأقل التعامل معها بشكل أكثر صرامة، أو منح إسرائيل ضوء أخضر لتوجيه ضربة انتقامية ضد إيران رداً على دعمها للميلشيات والتنظيمات التي تهدد أمن إسرائيل.
الخلاصة فيما سبق أن مصلحة إيران والولايات المتحدة تلتقي عند فكرة نسف مسؤولية طهران عن قرار "حماس" الهجوم على إسرائيل، وبالتالي فإن من المرجح أن يكون التسريب الذي نقلته "رويترز" صحيحاً وأن يكون متعمداً من الجانب الإيراني.
أما الواقع فيقول أن من الصعب للغاية أن يكون قرار هجوم "حماس" قد تم بمعزل عن إيران، و"حزب الله"، ونتذكر هنا تصريح غازي حمد المتحدث باسم "حماس" لشبكة "بي بي سي" بعد أيام من هجوم الحركة "حماس" الإرهابية على إسرائيل، والذي قال فيه رداً على سؤال بشأن حجم الدعم الذي حصلت عليه الحركة من إيران لتنفيذ هذه العملية: " أنا فخور بأن هناك من الدول تساعدنا، إيران تساعدنا، سواء بالمال أو بالسلاح أو بدعم سياسي، لا بأس أن نفعل ذلك". ومع ذلك ففي أقل التقديرات يمكن بناء توقعات متماسكة حول وجود تحريض وتشجيع من طهران و "حزب الله" لحركة "حماس" الإرهابية على تنفيذ الهجوم، الذي جاء في توقيت لا يصب سوى في مصلحة إيران، حيث نٌفذ في ذروة الحديث عن تطبيع وشيك للعلاقات بين المملكة العربية السعودية وإيران، وتسبب في تأجيل هذا الحديث إلى أجل غير معلوم، لاسيما أن الرياض بكل ماتتمتع به من ثقل روحي وديني وسياسي واستراتيجي يصعب عليها تبني خطوة تطبيع العلاقات مع إسرائيل في ظل الظروف الراهنة.
قناعتي أن إيران بدأت رحلة تكثيف جهودها من أجل التنصل من المسؤولية المباشرة عن قرار "حماس" في ظل ما تشهده من دمار في قطاع غزة وانهيار للقضية الفلسطينية ولحركة "حماس" وعدم رغبتها في تحمل مسؤولية القرار الخاطىء، وآثرت التضحية بحركة "حماس" للحفاظ على ما تبقي من أذرعها الميلشياوية، التي يمكن أن تتعرض لضربات عسكرية قوية لاحقة في حال ثبتت مسؤولية إيران عن الهجمات التي تعرضت لها إسرائيل طيلة الفترة الماضية.