اهتمت الدوائر السياسية والإستراتيجية في المنطقة والعالم بأنباء الإتفاق بين المملكة العربية السعودية وإيران على إستئناف العلاقات الدبلوماسية وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما، حيث ينطوي هذا التطور الفارق على دلالات وإنعكاسات مهمة للغاية تتجاوز الإطار الثنائي لعلاقات القوتين الإقليميتين إلى آفاق إستراتيجية أبعد. وبحسب بيان ثلاثي صادر عن كل من إيران والسعودية والصين، فقد تم الإتفاق على تفعيل إتفاقية التعاون الأمني الموقعة عام 2001، وإجراء محادثات ثنائية بشأن تعزيز العلاقات المشتركة، وإعادة فتح السفارتين في غضون مدة لا تتجاوز شهرين.
هذا التطور يمثل محطة فارقة على صعيد تطور العلاقات الإقليمية، ولا مبالغة في القول بأنه ينطوي على دلالات تدفع للقول بأنه سيدفع باتجاه إعادة هندسة شبكة التحالفات الإقليمية، إذ أن طي صفحة التوتر بين الخصمين الإستراتيجيين اللدودين في منطقة الشرق الأوسط يعني تحريك قطع شطرنج عدة من أماكنها، لاسيما أن هناك نوع من المواجهات غير المعلنة بين البلدين في ساحات إقليمية أخرى أبرزها اليمن وبدرجة أقل لبنان، وقدر كبير من تضارب المصالح والمناكفات الإستراتيجية في ملفات أخرى مثل العراق وسوريا.
ردود الفعل التي توالت عقب الإعلان عن الإتفاق تعكس الثقل الإستراتيجي للبلدين، وتؤكد أن إتفاقهما يعني الكثير بالنسبة للعالم ودول المنطقة، وقد جاءت ردود الأفعال عاكسة لما ينطوي عليه من آثار وتداعيات إستراتيجية ذات صلة بالمصالح الإستراتيجية للأطراف جميعها إقليمياً ودولياً، حيث بادرت أطراف عربية وخليجية عدة إلى الترحيب بالإتفاق.
ماذا يعني الإتفاق بالنسبة للطرفين السعودي والإيراني؟ هذا هو السؤال الذي يبدو من بين أكثر علامات الاستفهام العديدة التي يطرحها الاتفاق، إلحاحاً وأهمية، وفي الجواب على ذلك يمكن القول بأن المكاسب الإستراتيجية المحتملة للطرفين عديدة، ويمكن في هذا الإطار الإشارة إلى الجانب السعودي الذي سيتيح له الإتفاق تبريد الأزمة اليمنية والدفع باتجاه إيجاد تسوية سياسية يتوقع أن يلعب فيها الجانب الإيراني دوراً مؤثراً بحكم مايمتلك من دور فاعل في الأزمة، وتأثير على جماعة "الحوثي" المدعومة إيرانياً، والتي تمثل أحد طرفي هذه الأزمة التي دخلت عامها الثامن.
لاشك أن إستراتيجية المملكة العربية السعودية خلال العامين الأخيرين تنحو تماماً باتجاه منح أولوية مطلقة وقصوى لملف التنمية وتعزيز تنافسية اقتصاد البلاد، ولهذا يلاحظ تواصل الجهود الدبلوماسية السعودية الرامية إلى تبريد الأزمات وطي صفحة الخلافات الإقليمية، حيث بذلت الدبلوماسية السعودية جهوداً كبيراً في سبيل السعي لإيجاد حل للأزمة في اليمن، كما طويت صفحة الخلاف مع قطر وكذلك مع تركيا، وهنا يلاحظ أن الحوار مع إيران قد بدأ منذ نحو عامين، أي بدأ بالتوازي مع الجهود الدبلوماسية السعودية التي شملت ملفات إقليمية أخرى، ولكنه تأخر بسبب التعقيد الذي يتسم به هذا الملف، وحرص المملكة على أن يكون الحوار مع طهران هذه المرة على أسس ثابتة وراسخة ويؤدي إلى نتائج حقيقية. على الجانب الآخر، يمكن القول بأن مكاسب إيران السياسية والإستراتيجية من وراء تهدئة التوتر مع المملكة العربية السعودية، لا تقل عن تلك التي تحققها الرياض وربما تفوق، وهذا مايفسر حرص إيران الشديد على إستمرار الحوار مع المملكة خلال العامين الماضيين، حيث ترغب طهران في الحيلولة دون بناء تحالف إقليمي ضدها بعد تداول سيناريوهات عن تشكل حلف "شرق أوسطي" على غرار "الناتو"، بمشاركة السعودية وإسرائيل ودول إقليمية أخرى عديدة، فضلاً عن أن طهران ترغب في التخفف من عبء الأزمات التي تورطت فيها إقليمياً طيلة الأعوام الماضية، وتسببت في إستنزاف الإقتصاد الإيراني وتعريض مصير النظام الحاكم للخطر بسبب تفاقم غضب الشعب الإيراني جراء توجيه معظم الموارد الإيرانية المحدودة أصلاً بسبب العقوبات الغربية المفروضة على إيران، وتوجيهها إلى تمويل الأذرع والميلشيات الطائفية الموالية لإيران، فضلاً عما يعنيه تهدئة التوتر مع السعودية على صعيد انفراج عزلة النظام الإيراني إقليمياً ودولياً، وتعزيز موقفه في مواجهة الغرب وإسرائيل، لاسيما بعد دخول جهود إحياء مفاوضات الإتفاق النووي الإيراني، نفق الجمود وموتها إكلينيكياً بكل ما يعنيه ذلك من إحتمالات تعرض إيران لعقوبات غربية أخرى ولاسيما بسبب موقف طهران من الأزمة الأوكرانية.
الحوار بين المملكة العربية والسعودية يحقق أيضاً مكاسب لأطراف إقليمية أخرى، بخلاف اليمن، أبرزها سوريا ولبنان والعراق، حيث يمكن أن يسهم تعاون البلدين في تحقيق الأمن والاستقرار بالعراق، وايجاد تسوية للصراع الدائر في سوريا، واستئناف العلاقات بين الرياض ودمشق، فضلاً عن البحث عن مخارج واقعية للازمة المتفاقمة في لبنان، بحكم نفوذ الرياض وطهران داخل أوساط صناعة القرار اللبناني، ولذلك فإن من المتوقع أن تشهد المنطقة خلال الفترة القليلة المقبلة تحركات متسارعة على رقعة الشطرنج الشرق أوسطية، كثمرة مباشرة لتذويب الجليد في العلاقات السعودية ـ الإيرانية.