قاسم سليماني هو جنرال بالوكالة، أو "إرهابي" بحسب التصنيف الرسمي الأمريكي، أو لك أن تعتبره "مسؤولاً إيرانياً" بحسب المتعارف عليه في أفضل الأحوال، وأكثرها حياداً في وصف الرجل، الذي يعتبر من الناحية الواقعية، أمير حرب، أو زعيم ميلشياً طائفية؛ فهو قائد فيلق "القدس" رأس حربة الحرس الثوري الإيراني، والمكلف بمهام التدخلات العسكرية الايرانية في الخارج، ومسؤول التنسيق مع زعماء الميلشيات من وكلاء الإرهاب الموالين لطهران في دول المنطقة، أو قل مسؤول تصدير "الأنشطة الإيرانية الخبيثة" إلى الشرق الأوسط، على حد تعبير الجنرال الأمريكي راي أوديرنو.
يبدو للمراقب أن اسم قاسم سليماني يتردد في أي نقاش حول الحالة الإيرانية أكثر من أي اسم آخر من بين ساسة إيران وزعمائها ـ عدا ولي الفقيه والمرجعية الأيديولوجية الأعلى للنظام بطبيعة الحال ـ ما يعكس حجم التداخل بين "العسكري" و "السياسي" في أوراق إيران المطروحة للتداول في بورصة السياسة الاقليمية والدولية، لاسيما إذا عرفنا أن سليماني بات يقدم في الإعلام الرسمي الإيراني باعتباره "بطلاً قومياً".
ظهر سليماني في المشهد الاعلامي بصورة مكثفة في الأشهر الأخيرة، وتحديداً منذ يونيو الماضي، على خلفية وجوده في العراق، حيث يتم تداول صوره وسط الحشد الشيعي الطائفي الذي قاده هناك في القتال ضد تنظيم "داعش". ثم عاد سليماني إلى واجهة الإعلام مجدداً على خلفية تسريبات إعلامية تتحدث عن زيارته سراً إلى موسكو نهاية الشهر الماضي ولقائه الرئيس بوتين في الكرملين، ما يعتبر خرقاً للحظر الدولي المفروض من جانب مجلس الأمن الدولي على سفره من ناحية، ورسالة سلبية خطيرة إلى البيت الأبيض من ناحية ثانية.
خبر زيارة سليماني انتشر كالنار في الهشيم بعد أن كشف تقرير لموقع "فوكس نيوز" عن هذه الزيارة استناداً إلى ما وصفها بمصادر استخباراتية غربية، وسرعان ما نفت مصادر روسية خبر الزيارة بعد إعلان البيت الأبيض قلقه حيال هذا الخبر.
في مثل هذه الأحوال، فقد اعتاد المراقبون والمتخصصون أن النفي في كثير من الأحوال ليس سوى تأكيد من نوع آخر، لاسيما في مثل هذه "المناوشات"، التي يختلط فيها الشأن السياسي بالعسكري بالاستخباراتي، حيث يصدر النفي لرفع الحرج عن طرف ما، هو هنا الطرف الأمريكي بطبيعة الحال، بعد أن تكون "الرسالة" قد وصلت منتهاها وحققت مبتغاها.
ولأنني أحاول تحرى الموضوعية ـ قدر الإمكان ـ فإن الزيارة ـ لو ثبتت صحتها ـ فإنها لا تعد خرقاً لقواعد الحظر الأممي فقط، بل خرق للتفاهم "النووي" الإيراني ـ الأمريكي الذي لم يجف حبره بعد، والذي يعد ـ ضمناًـ بمنزلة التزام إيراني بقواعد اللعبة والقوانين والأعراف والنظام الدولي، حيث تعد الزيارة المفترضة لسليماني انتهاك واضح لكل هذه المنظومة، واستخفاف واضح بقرارات مجلس الأمن الدولي، الذي يفترض أن يقوم برفع العقوبات الدولية التي فرضها على إيران في سنوات سابقة!.
شخصيا، لا أقتنع كثيرا، بل أشعر الرثاء، حيال التحليلات التي تقول أن قاسم سليماني والحرس الثوري يحاول إفشال الاتفاق النووي الايراني مع الغرب، ويسعى إلى عرقلته واظهار التحدي سواء عبر زيارة روسيا أو غير ذلك. صحيح أن سليماني لا يتبع الرئيس الإيراني حسن روحاني، ولكنه يخضع تماماً لسلطة المرشد الأعلى علي خامئني ويقدم إليه تقاريره وينفذ تعليماته، وبالتالي فمن السذاجة السياسية أن نصدق أن سليماني يسعى إلى إفشال اتفاق لم يكن ليمر رسميا او يوقع بمعرفة ممثل إيران ومندوبها الرسمي في المفاوضات جواد ظريف من دون موافقة رسمية ودعم واضح من خامنئي ذاته، بحكم تراتبية النظام وعقيدته الأيديولوجية وهرميته السلطوية بالغة الصرامة.
يدرك من يتابع الساحة الإيرانية، أن طهران تجيد لعبة توزيع الأدوار تفاوضياً وسياسياً وإعلامياً، بشكل بالغ الدقة والحرفية، وتوظف هذه اللعبة بدهاء في الجولات التفاوضية، بل تستخدمها كمعادل موضوعي للضغوط الشعبية وقياسات الرأي العام الغربية، التي تلقي أحياناً على موائد التفاوض لانتزاع بعض التنازلات من الخصوم. ومن ثم فإن من الضروري التفرقة بين المواقف والثوابت من ناحية والمتغيرات والتكتيكات التفاوضية من ناحية ثانية، فملف المفاوضات الإيرانية مع الغرب لم يغلق بعد، وماراثون التنازلات المتبادلة لم يصل إلى خط النهاية، وما زال هناك كثير من المناورات كي يصل كل طرف إلى اهدافه ومصالحه، وفي الطريق إلى ذلك هناك لاعبون وساحات صراع وأوراق ضغط، ومن بين هؤلاء يبدو الحرس الثوري الإيراني ورقة إيرانية رابحة وقوية ضمن محاولات طهران الموائمة بين خط سير الاتفاق النووي وطموحاتها التوسعية الاقليمية.
تحركات سليماني بمنزلة "فزاعة" لإثارة قلق الخصوم الاقليميين والدوليين لإيران على حد سواء، فتنقلات الرجل تعكس بوصلة الاهتمام الرسمي الايراني، أو مؤشر على اتجاهات التآمر في المدى القريب.
لنترك واشنطن تحقق في صحة نبأ الزيارة، وهي التي تدعي معرفة كل صغيرة وكبيرة على ظهر الكوكب الأرضي، ونترك لها هامش حركة مناسب لحفظ ماء الوجه. فلم يكن الوزير كيري ينتظر هذه الخطوة الهجومية المحرجة من أصدقائه في طهران، لاسيما أن الإيرانيين لم يكتفوا بتسرب الخبر عبر شبكة "فوكس" الأمريكية بل خرج مسؤول إيراني يوم الجمعة الماضي ليؤكد نبأ الزيارة ويضع الجميع في حرج سياسي بالغ، ويضطر سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، سامانثاباور، إلى الخروج عن صمتها والقول بأن جميع الدول ملزمة بتنفيذ قرار حظر السفر المفروض على قاسم سليماني.
في كل الأحوال، لندع التصريحات الرسمية جانباً، فواشنطن وطهران تنسقان أمنياَ في محاربة تنظيم داعش بالعراق، وهذا ليس سراً، وبالتالي فمن الصعب أن تغيب روسيا عن أي جهود تبذل في العراق وسوريا خلال المرحلة الراهنة، حيث دعت موسكو مؤخراً إلى تشكيل ائتلاف إقليمي واسع في الشرق الأوسط لمحاربة التنظيم المتشدد، بالإضافة إلى محاولاتها تسوية الأزمة السورية بما يضمن مصالحها ويحقق أهدافها هناك، ولذا فليس مفاجئاً أن يزور سليماني موسكو بعلم الجانب الأمريكي، حتى وإن تظاهر الجميع بالذهول والاستغراب ونطقوا بالإدانة والاستنكار. والمهم في القصة هو: ماذا في جعبة سليماني حين زار موسكو؟ وهل بدأت التفاهمات غير المعلنة في الاتفاق النووي الايراني مع مجموعة "5+1" في الظهور التدريجي؟ سنرى ونرصد ونسعى للفهم وتفكيك الألغاز، ولا بديل أمام مراقب مثلي سوى ذلك.
شؤون إيرانية
"إرهابي" في الكرملين!!
- الزيارات: 838