الهدف الاستراتيجي الإيراني من وراء بناء قدرات نووية يتمثل في انتزاع اعتراف دولي بنفوذها الإقليمي، وإطلاق يدها كي تعيد هندسة هذه المنطقة وفقا لما يتراءى لنظام الملالي.
يظن الكثيرون أن التوترات الكامنة في العلاقات الإيرانية – العربية تمثل أحد تجليات الصراع الشيعي – السني، وما يرتبط بذلك من خلافات بين المذهبيْن، ولكن هذا التحليل لا يعكس واقع الحال في علاقات الجانبين، فتاريخ العلاقات بين الجانبين هو المحرك الحقيقي للتوترات، وإذا أضفنا إلى ذلك ما تمليه الاعتبارات الجيو استراتيجية والجيو سياسية، لأدركنا أن الخلاف المذهبي لا يلعب دورا مؤثرا في العلاقات عبر ضفتي الخليج العربي.
لنأخذ أولا العامل التاريخي، وهنا قد لا أضيف جديدا، لاسيما بالنسبة إلى المتخصصين والخبراء والمهتمين، إذا قلت بأن تاريخ العلاقات الإيرانية – العربية زاخر بالصراع منذ مرحلة ما قبل الإسلام، الذي يمثل منعرجا مهما لا يمكن القفز عليه عند تحليل مسار هذه العلاقات ومراحلها وتطوراتها، فمعركة القادسية لا تزال تمثل جرحا نازفا بالنسبة إلى كثير من القوميين الإيرانيين، ممن ينظرون إليها من منظور قومي عنصري صرف، بعيدا عن دوافعها وأبعادها وكيف أنها تمثل شرارة انصهار للثقافتين العربية والفارسية ضمن حضارة إسلامية مزدهرة وقتذاك.
أما حسابات الجغرافيا، فلها هي الأخرى نصيب لا يقل تأثيرا عن دور التاريخ في علاقات الجانبين. فالجغرافيا وضعت الجانبين على محك الصراع بشكل شبه دائم تاريخيا، وإيران تتعامل مع الجغرافيا والتاريخ من منظور مغاير للعرب، فهي في حالة حنين دائم إلى استعادة مجدها الإمبراطوري، وتشعر بفقدان الهوية، شأنها في ذلك شأن تركيا، لذا فهي تسعى بكل الطرق للسيطرة على الدول المجاورة، ومحاولة تشكيل الخارطة السياسية فيها بما يتماشى مع مصالح طهران وأهدافها الإستراتيجية في الإقليم، وتستخدم في ذلك قائمة طويلة من “الوكلاء” ابتداء من حزب الله اللبناني، وصولا إلى جماعة الحوثي في اليمن، مرورا بميليشيات الحشد الشيعي في العراق، وعناصر وتيارات طائفية في دول عربية أخرى عديدة.
إيران تتعامل مع الجغرافيا والتاريخ من منظور مغاير للعرب، فهي في حالة حنين دائم إلى استعادة مجدها الإمبراطوري، وتشعر بفقدان الهوية، شأنها في ذلك شأن تركيا
لم يكن هدف إيران من امتلاك قدرات نووية مناطحة القوى النووية الكبرى في السيادة والسيطرة على النظام العالمي القائم، كما لم يكن هدفها تهديد إسرائيل أو بلوغ حالة من الردع النووي المتبادل معها، أو حتى استغلال هذه القدرات في الضغط على إسرائيل لمنح الفلسطينيين بعض حقوقهم المسلوبة كما يزعم الإيرانيون وبعض الفصائل الفلسطينية المخادعة أو المخدوعة – لا فرق – ولكن الهدف الإستراتيجي الإيراني من وراء بناء قدرات نووية كان يتمثل في انتزاع اعتراف دولي بنفوذها الإقليمي، وإطلاق يدها كي تعيد هندسة هذه المنطقة وفقا لما يتراءى لنظام الملالي وحساباته السياسية والإستراتيجية، التي تتخذ من المذهبية والطائفية ستارا.
لم يكن إعلان مسؤولين إيرانيين عديدين عن سيطرة بلادهم على أربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، نوعا من التباهي والفخر القومي المنبوذ فقط، بل كان بالأساس تلويحا للغرب بواقع حاولت إيران تكريسه والبناء عليه، وهذه حقيقة تردد صداها في مرحلة لاحقة عبر التعاون اللافت للانتباه بين الحشد الشيعي بقيادة جنرالات الحرس الثوري الإيراني، وفي مقدمتهم قاسم سليماني، الذي يقدم نفسه باعتباره العدو الأول للشيطان الأكبر، في ما كان الطرف الثاني للتعاون هو القوات الأميركية التي تحارب تنظيم داعش في العراق الشقيق.
البعض يقول إن المد القومي العنصري في التاريخ الإيراني قد تبدل تماما عقب قيام ثورة الخميني عام 1979، وأن هذه الثورة أخذت على عاتقها فكرة التقارب مع حاضنتها الإسلامية، ولكن هذا الحديث والنقاش خاو من البراهين والمعاني، فإيران الخمينية قد حملت للعرب وجها بشعا يتجاوز، بمراحل، سلوك إيران الشاهنشاهية، حيث ابتكر الملالي فكرة “تصدير الثورة” التي كانت بمثابة ناقوس خطر حول النوايا الحقيقية للتوسع الإيراني الفارسي الذي يتخذ من الدين ستارا، والثورية الزائفة منهجا وسبيلا، بل إن إيران الشاهنشاهية التي كانت تلعب دور “الشرطي الإقليمي” كانت تمتلك علاقات أفضل بمراحل مع الدول العربية من تلك التي حاولت طهران بناءها طيلة حقبة الملالي المليئة بالتهديد والوعيد والنعرات العنصرية الاستعلائية الفجة.
ثمة جانب آخر يكشف وجه إيران الخمينية، ويتمثل في سلوك إيران في عهد رجال الدين الذين يفترض فيهم امتلاك رؤية مغايرة تجاه العرب الشيعة، حيث كان يفترض أن يكون تعاملها معهم محصورا في نطاق مذهبي يحترم سيادة دولهم، ولا يقفز على فكرة المواطنة ويحاول إلغاءها ونسفها تماما، فما حدث كان بالفعل خارج نطاق المفترض، حيث سعت إيران إلى تحويل كثير من الشيعة العرب أو العرب الشيعة إلى مجرد “عملاء” لها وفي أحسن الأحوال “وكلاء” وخلايا نائمة تنتظر الأوامر للتحرك ضد أوطانها وبلادها وقياداتها، وقد حدث هذا في دول عربية عدة منها العراق واليمن ولبنان وغيرها، بل إن طهران نجحت في غرس رجل طائفي بامتياز ليتولى منصب رئيس وزراء العراق، هو نوري المالكي، الذي لا يمكن لأي باحث منصف ترشيح اسمه ضمن قائمة ساسة قادرة على بناء اصطفاف وطني عراقي، فنوري أو جواد المالكي، حسب ما كان يطلق على نفسه إبان فترة حكم صدام حسين، ليس سوى زعيم طائفي متعصب رحل إلى إيران مع اندلاع ثورة الخميني، وأقام هناك نحو ثماني سنوات، حيث تولى قيادة الذراع العسكرية لحزب الدعوة العراقي، الذي كان مواليا لإيران إبان فترة الحرب العراقية – الإيرانية، بل كان المالكي يتولى مسؤولية تنفيذ بعض العمليات العسكرية داخل العراق بتكليف مباشر من طهران، بحسب ما ورد في شهادات مكتوبة وموثقة عن تلك المرحلة. فهل يعقل أن يكون مثل هذا الرجل مسؤولا عن قيادة بلد بحجم وثقل ومكانة العراق الشقيق؟ وهل هناك بعد ذلك مجال للتساؤل حول نوايا إيران تجاه العراق؟
سلوك إيران الخمينية أيضا تجاه عرب إقليم الأحواز هو برهان ساطع على طائفية النظام وعنصريته في آن واحد، فهذا النظام الذي يرفع شعارات دينية، يحترم الأقليات الدينية الموجودة في إيران عدا العرب السنة، الذين اكتووا بنار هذا النظام وعانوا ـ ولا يزالون ـ جراء ممـارسات القمع والبطش والظلم والاضطهاد التي يتّبعها معهم الملالي، وزيف القناع الديني الذي ترتديه طهران، وتحاول من خلاله خداع بسطاء المسلمين والعرب والإيرانيين على حد سواء.