نكاد نعرف ـ كمراقبين ومتخصصين ـ توجهات الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب وسياسته المرتقبة حيال دول مجلس التعاون، واهمها مايتعلق بضرورة تحمل الأعباء المادية المترتبة على التزام الولايات المتحدة باتفاقات التعاون الدفاعي بين الجانبين، ولكن النقطة الأهم في ملف سياسات ترامب إزاء منطقة الخليج العربية يكمن في سياسته المحتملة حيال إيران.
الرئيس الأمريكي المنتخب أعلن نيته الانسحاب من معاهدة الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية عبر المحيط الهادىء، وذلك خلال اليوم الأول من توليه منصبه رئيسا للبلاد خلفاً لباراك أوباما، في 20 من يناير المقبل، وجاء هذا التصريح ضمن شريط فيديو ملخص تضمن أهم القرارات التي يعتزم الرئيس الجديد اتخاذها خلال الأيام الأولى من توليه منصبه.
هذه الاتفاقية الموقعة عام 2015، غاية في الأهمية لأسباب واعتبارات عدة، في مقدمتها أنها تضم 12 دولة، هي استراليا، وبروناي، وكندا، وتشيلي، واليابان، وماليزيا، والمكسيك، ونيوزيلندا، والبيرو، وسنغافورة، والولايات المتحدة، وفيتنام ، وهي دول تمثل 40% من الحجم الكلي للاقتصاد العالمي، وتهدف الاتفاقية إلى توطيد العلاقات الاقتصادية بين الدول الموقعة عليها، من أجل دعم النمو، لكن منتقديها يقولون إنه تم التفاوض على بنودها في السر، وأنها تصب في مصلحة عدد من الشركات الكبرى متعددة الجنسيات. وبغض النظر عن ايجابيات وسلبيات هذه الاتفاقية الاستراتيجية، وتبعات الانسحاب منها أو غير ذلك، فإن ما يهمني في هذه الخطوة نقطتان مهمتان أولهما أن الرئيس ترامب لم يأت في هذه التصريحات المهمة على ذكر الجدار العازل الذي قال إنه يريد تشييده على طول الحدود الجنوبية بين الولايات المتحدة والمكسيك، كما لم يتطرق إلى النظام الصحي الذي وضعه الرئيس الحالي باراك أوباما، وذلك عند حديثه عن أهم القرارات التي يعتزم اتخاذها في بدايات عمله، ما يعطي أول إشارة جدية على أن الشعارات الانتخابية شىء والسياسات التنفيذية شىء آخر، وأن هناك سقف مؤكد لهامش حركة البيت الأبيض في مواجهة بقية مؤسسات الحكم الأمريكية، ما يجعلني اشكك أيضاً في امكانية الغاء اتفاقية الشراكة عبر الأطلسي التي اعلن ترامب أنه يعتزم الغائها، لاسيما أن الدول الأعضاء هم ركائز استراتيجية الأمن القومي الأمريكي في آسيا خلال القرن الحادي والعشرين، والمعروفة باسم "آسيا أولاً"؛ وهنا تجب الاشارة إلى أن ترامب يفضل ترامب الاتفاقات التجارية الثنائية، ويرى أن من شأنها أن تعيد للأمريكيين فرصا للعمل، ومزيدا من الصناعات التي ستستفيد منها الولايات المتحدة، كما يتبنى الرئيس الأمريكي الجديد مبدأ يسميه "أمريكا أولاً" ويشمل السياسات التجارية والاقتصادية والصحية وغيرها، ويسعى إلى استبعاد الكثير من أفكار العولمة، ولاسيما تلك الخاصة بالتعهيد، ويريد ضخ دماء جديدة في الصناعات الأمريكية وتوفير فرص عمل للشباب الأمريكي. ولكن هذه السياسات تضعه في صدام مباشر وقوي مع الشركات عابرة القارات، التي تقتات على أفكار العولمة والتجارة الحرة وآليات السوق. النقطة الثانية المهمة من وجهة نظري في تصريحات ترامب حول أهم القرارات التي يعتزم اتخاذها في فترة رئاسته الأولى أنه لم يأت على ذكر مصير الاتفاق النووي الموقع بين إيران ومجموعة "5+1"، وهل يعتزم الانسحاب منه أم لا.
ولاشك أن مصير الاتفاق النووي مع إيران هو سؤال الساعة في منطقة الخليج العربي، ليس فقط بالنسبة لإيران ولكن أيضاً، بالنسبة لجميع الأطراف الاقليمية والدولية، لأن صياغة العلاقة بين إدارة ترامب الجديدة وطهران، سيحدد معالم الكثير من الأزمات الاقليمية، ويضع النقاط على الحروف في مسارات الأوضاع الأمنية في هذه المنطقة الحيوية من العالم خلال المدى المنظور.
والمؤكد أن عدم إعلان نوايا ترامب بشأن الاتفاق النووي لا يعني بالضرورة أن الإدارة الجديدة تنوي المضي فيه، والأرجح أن هناك حاجة إلى بعض الوقت لدراسة الموقف استراتيجياً في ما يخص هذا الاتفاق والبدائل المطروحة للتعاطي معه من جانب إدارة ترامب، وهذا قد لا يتاح للرئيس الجديد سوى بعد استلام مهامه رسمياً.
بعض المراقبين يرجحون أن يقرر الرئيس ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي الموقع مع إيران، لاسيما أن الجمهوريين الرافضين للاتفاق يسيطرون على الكونجرس بمجلسيه، الشيوخ والنواب، وبالتالي فالأغلبية الداعمة لقرار ترامب المحتمل في هذا الشأن متوافرة وداعمة له بقوة.
خيار الانسحاب أمريكياً من الاتفاق النووي مع إيران ليس مستبعداً، حتى من جانب طهران ذاتها، رغم تصريحات القادة الايرانيين، الذين يحاولون التظاهر بالاطمئنان حيال مصير هذا الاتفاق، ولكنهم يدركون في قرارة أنفسهم أن خيار الانسحاب الأمريكي وارد وبقوة، كما إن تبعات هذه الخيار تدرس بالتأكيد في العواصم الأخرى الموقعة على هذا الاتفاق.
وقناعتي الذاتية أن إدارة ترامب لن تمضي في جميع الأحوال على درب الرئيس أوباما في التعاطي مع إيران، فترامب ليس من أنصار نظرية الاحتواء الجديدة التي حاول أوباما تطبيقها مع إيران، ولكن هذا التغيير في الاستراتيجية لا يعني حتماً الصدام بين واشنطن وطهران، بل الأقرب للتصور هو العودة إلى التشدد من جانب الولايات المتحدة في حين ستحاول إيران التهدئة وامتصاص حماس الإدارة الجديدة وتفعيل نظرية "التقيه" في مواجهة حدة ترامب، لاسيما إذا حدث توافق بين الرئيس الأمريكي الجديد ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، وتم التوافق على ابقاء الرئيس الأسد بما يرضي إيران ويحقق أحد أهدافها في الصراع السوري.
هي جولة جديدة في السجال الأمريكي ـ الايراني، ولكن المؤكد أن ترامب لن يخوض صراعاً عسكرياً مفتوحاً مع إيران، بل سيعمد على الأرجح إلى "تدجينها" وفق آليات مغايرة لمصلحة إسرائيل وتهدئة لمخاوفها وهواجسها.