حالة "جنون العظمة"و"البارانويا"السياسية الناجمة عن إحساس زائف بالعبقرية في القيادة والزعامة وتؤدي إلى ارتكاب الحماقات والأفعال الجنونية واتخاذ قرارات كارثية في الحروب وغيرها، هي حالة معروفة علمياً، وأصيب بها الكثير من القادة والزعماء على مر التاريخ. هذه الحالة هي أكثر ما يميز سلوكيات القيادة الايرانية في الوقت الراهن، حيث اتجه الملالي مؤخراً إلى إعلان تحديهم للعالم ومواصلة تطوير برنامج الصواريخ الباليستية "بطاقته الكاملة"بحسب الإعلان الرسمي الإيراني!!
اعتدنا في العقود والسنوات الماضية أن القيادة الإيرانية تجيد لعبة توزيع الأدوار في السياسية الخارجية، فتارة نجد قادة ميلشيا الحرس الثوري يطلقون التصريحات النارية بينما يميل السياسيين إلى المناورة في منطقة الخطاب السياسي "المرن"ظاهرياً، وهكذا، ولكن الفترة الأخيرة تشهد اصطفافاً لافتاً بين السياسيين وقادة الميلشيات في تصعيد متعمد للتوتر والخلاف مع الولايات المتحدة، بل يتعمد الحرس الثوري استفزاز القطع العسكرية البحرية الأمريكية في مياه الخليج العربي، حيث وقعت حوادث متكررة خلال الأيام القلائل الماضية.
خرجت الخارجية الإيرانية ببيان "ناري"رداً على عقوبات الكونجرس الأمريكي بشأن البرنامج الصاروخي الإيراني، وهذا امر وارد، ولكن ان تفسر الخارجية الإيرانية موقف بلادها بشأن البرنامج الصاروخي باعتباره "سياسة داخلية إيرانية"لا يحق للآخرين التدخل أو التعليق عليها، فهذا أمر خارج المألوف ويثير السخرية، ولا أدرى كيف يكون برنامج صاروخي هجومي لدولة ما أحد بنود سياستها الداخلية؟! الأمر هنا لا يتعلق ببرنامج صحي ولا سياسات تعليمية ولا مشروعات بنية تحتية تنموية حتى يمكن مطالبة الدول الأخرى بعدم التعليق عليها، بل بصواريخ تطور وتبنى وتتمترس على حدود الدول في وضعية إطلاق للهجوم على دول أخرى وفق الأمدية المحددة التي تطالها هذه الصواريخ، سواء كانت قصيرة أو متوسطة أو بعيدة المدى.
لا شك أن القول بان الصواريخ الإيرانية هي شأن داخلي مسألة مثيرة للسخرية، وإلا فما فائدة كل ترسانات القوانين والمواثيق الدولية الناظمة لشؤون التسلح، لاسيما في المجال النووي وكل ما يتعلق بالأدوات الحاملة أو الناقلة للأسلحة النووية كالصواريخ وغيرها!
التسلح هو شأن سيادي وداخلي طالما لم يؤثر في الأمن القومي لدول أخرى، أو اتسم بطابع دفاعي لحماية المكتسبات والوطنية والسيادة الوطنية للدول، أو حتى اتسم بطابع هجومي ولكن الدول القائمة به لا تصنف ضمن الدول ذات السياسات العدائية، ولكن أن تقوم دولة لم تخرج من تصنيف الدول المارقة أو المعادية للعالم سوى فترات زمنية قليلة، بتطوير أسلحة نووية وصواريخ حاملة ذات أمدية تشكل خطراً على الأمن والاستقرار العالمي، فهذا الأمر ينطوي على خطورة بالغة للعالم أجمع.
هناك حالات معينة للدول من هذا النوع في مقدمتها كوريا الشمالية وإيران، وللمصادفة فإن هناك تزامناً لافتاً في تصعيدهما المتعمد واستفزازهما الخطير للعالم في الآونة الراهنة، فالقيادة الكورية الشمالية لا تكف هي الأخرى عن إجراء التجارب الصاروخية، وتوجه موارد الدولة الكورية الشمالية كلها باتجاه هذا الملف، والشيء ذاته يفعله الملالي، الذي لا يخفى على مراقب أنهم يستنسخون ممارسات الرئيس كيم جونج اون، ويمضون على خطاه إعجاباً منهم بما يفعله حتى لو استمرت عزلة شعبه ومعاناته لسنوات وعقود طويلة مقبلة!
استنساخ النموذج الكوري الشمالي سيقود الملالي إلى المهالك لا محالة، لأن الدراسات والتحليلات الاستراتيجية المعتبرة جميعها تشير إلى أن الإدارة الأمريكية تمتلك حسابات معقدة للغاية في التعامل مع التحدي الكوري الشمالي، وتتصرف بحذر بالغ في هذا الملف الشائك، ولكنها لا تمتلك الحسابات ذاتها في التعامل مع الحالة الإيرانية، التي تضع نفسها موضع "التحدي"لإدارة الرئيس ترامب، وهذا بحد ذاته استفزاز بالغ قد يعجل الرد الأمريكي على حسابات الملالي الخاطئة.
لا يدرك ملالي إيران أن العقل والمنطق يقول أن استنساخ تصرفات الرئيس الكوري الشمالي في الوقت الراهن قد يكلفهم غالياً، وربما يدفع الولايات المتحدة لإعادة حساباتها بشأن استخدام القوة العسكرية مع إيران، بما يعنيه ذلك من خسارة مؤكدة للملالي، أولها سقوط نظامهم السياسي الهش.
على الأرجح، فإن إدارة الرئيس ترامب لن تقبل وجود تحديان متزمنان لقوتها وهيبتها، التي راهنت، ولا تزال، وعليها كثيراً في الوصول للسلطة، حيث وعدت الشعب الأمريكي باستعادة هيبة الولايات المتحدة ونفوذها العالمي.
أضف إلى ذلك أن أحد الدروس المستوحاة تلقائياً من الحالة الكورية الشمالية تتمثل في ضرورة التصدي لمصادر التهديد والخطر الصاروخي في بداياتها وعدم تركها لتتطور وتمثل مصدر تهديد استراتيجي حقيقي للأمن القومي والمصالح الاستراتيجية الأمريكية، وهذا الدرس يدفع تلقائياً باتجاه الحزم العسكري مع تحدي الملالي، وبالتالي يصبح إعلانهم مواصلة تطوير البرنامج الصاروخي بمنزلة نوع من الجنون، لا تصعيداً يستهدف الحصول على تنازلات أمريكية يدركون أنها لن تأتي في ظل المعطيات الاستراتيجية الراهنة.