بالتأكيد ليس هناك من هو أسعد في منطقة الشرق الأوسط الآن من ملالي إيران، الذين ألقى إليهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، من دون أن يقصد، بهدية عيد الميلاد، متمثلة في قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ليوفر لهم فرصة ثمينة للمزايدة والمهاترات الإعلامية والسياسية والعمل على صرف الأنظار عن التهديد الإيراني والرغبة التوسعية العارمة في قضم مزيد من الأراضي والسيطرة على مزيد من العواصم العربية!
بداية، ليس هناك خلاف على أن الإدارة الأمريكية الحالية جادة في التصدي للتهديد الإيراني، ولكنها، للموضوعية، لم تستطع حتى الآن بلورة إستراتيجية واضحة للتعامل مع هذا التهديد؛ والحديث يدور أمريكيًا عن إنشاء تحالف دولي «غير عسكري» للتصدي لنفوذ إيران في منطقة الشرق الأوسط، وبات واضحًا أن الولايات المتحدة تتجه للفصل بين الملف النووي وانتهاكات إيران وأنشطتها التوسعية الطائفية الداعمة للإرهاب في المنطقة العربية. وأحد أسباب تراجع إدارة ترامب فيما يبدو عن تشددها في الملف النووي هو الرغبة في تفادي الاصطدام مع بقية القوى الدولية الموقعة على الاتفاق، فضلاً عن حاجة واشنطن لدعم هذه الدول في بناء موقف دول مضاد لأنشطة إيران، لا سيما ما يتعلق بحاجتها إلى روسيا تحديدًا من أجل الضغط على إيران للخروج من سوريا.
سوريا تمثل بالنسبة للجانب الأمريكي أولى نقطة التماس مع التهديد الإيراني، سواء في ظل اقتراب ميليشيات الحرس الثوري الإيراني من حدود إسرائيل أو في ظل رغبة إيران المعلنة في امتلاك قواعد عسكرية في الداخل السوري وما يعنيه ذلك من دعم لحزب الله اللبناني عبر طريق بري مفتوح يصل بين إيران والبحر المتوسط مرورًا بالعراق وسوريا وصولاً إلى شواطئ لبنان، وهو الطريق الذي تشير تقارير إعلامية إلى أن الأعمال الإنشائية فيه قد انتهت بالفعل ودخل الخدمة عبر نقل العتاد والأسلحة إلى سوريا.
الطموح الإيراني للوصول إلى شواطئ المتوسط هو توسع مذهبي استعماري جامح وغير مسبوق لإيران منذ الإمبراطورية الفارسية، ويتطلب ردًا سريعًا وجادًا من القوى الكبرى، فالوقت ليس في مصلحة أحد عدا إيران بطبيعة الحال.
من قراءة تصريحات القادة الأوروبيين يتضح أن هناك قناعة راسخة بأن إيران هي المصدر الرئيس لعدم الاستقرار في المنطقة، ولكن تبقى الإشكالية في آليات التصدي لهذا التهديد حيث يبرز الخلاف وتتباين المواقف فيما تتسلل إيران بسهولة بين هذه الثغرات!!
محاولة الجانب الأوروبي إيجاد صيغة توازن بين الشد والجذب والبقاء في منطقة «دافئة» بين واشنطن وطهران هو بمنزلة مكافأة لإيران على انتهاك القانون الدولي وسيادة الدول، ويجب على أوروبا ألا تخضع لمساومات الملالي على ورقة المصالح وابتزاز العواصم الأوروبية الكبرى بصفقة هنا وأخرى هناك.
العواصم الخليجية والعربية عليها أن تلعب دورًا في ردم الهوة التي تتشكل بين الموقفين الأوروبي والأمريكي حول إيران، وعدم الرهان على أن أوروبا ستنصاع بالأخير لرغبة الولايات المتحدة لأن الأمر بالنسبة لإيران يبدو مختلفًا في ظل وجود دعم روسي قوي لنظام الملالي، ما يضعف حماس الأوروبيين للانخراط تمامًا في المعسكر الأمريكي المعادي لإيران جملة وتفصيلاً.
التوازن الصعب بالنسبة لأوروبا الآن يتمثل في كيفية عدم إلغاء الإدارة الأمريكية للاتفاق النووي والبحث عن آلية لمعاقبة إيران عن انتهاكات برنامجها الصاروخي، وهنا تبدو خيارات عدة للعقوبات التي لا تفضلها أوروبا حاليًا بالنظر إلى إغراء الصفقات الاقتصادية والتجارية مع طهران!
وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس أدلى بتصريح لافت منذ أيام قال فيه: إن الولايات المتحدة لا تعتزم إطلاقًا الرد عسكريًا على إيران بسبب دورها المزعزع للاستقرار في الشرق الأوسط، مشددًا على أن الرد الأمريكي لن يتعدى الإطار الدبلوماسي، وأن «الولايات المتحدة ليست لديها أي نية للرد بهذه الطريقة (العسكرية) على إيران.
كان الجنرال ماتيس يعلق على تصريحات للمندوبة الأمريكية لدى الأمم المتحدة نك هايلي قائلاً: «إن من كانت هناك هي السيدة هايلي وليس أحد جنرالاتنا»، مشيرًا إلى أن «هذا جهد دبلوماسي هدفه أن نظهر للعالم ما تقوم به إيران». واعتبر أن «فضح ما تقوم به (إيران) هو أمر مفيد للمجتمع الدولي لتوعيته بشأن ما يجري هناك».
تخوفي الأساسي هو أن إسقاط الخيار العسكري من أوراق الضغط الأمريكي سيغري إيران بالتمادي في مخططها، فالملالي لا يكترثون بالعقوبات ولا يأبهون بمعاناة الشعب الإيراني، وكل ما يخشونه هو مصير النظام، وبالتالي فإن ضمان عدم التعرض لضربة عسكرية هو الضمان الذي كانوا ينتظرونه بشغف من واشنطن!!
في ضوء ما سبق، هل تفلح الإستراتيجية القائمة على «فضح» إيران في ردع الملالي عن استكمال مخططهم التوسعي في المنطقة؟! شخصيًا اتشكك في ذلك بشدة، والسبب - إضافة إلى تأثير إسقاط الخيار العسكري - في أن الدلائل والبراهين التي قدمتها السيدة هايلي للعالم حول تورط إيران في توريد صواريخ للميليشيات الحوثية في اليمن هي معلومات معروفة للجميع، والمسألة لا تتعلق بالأدلة بل بكيفية بناء إستراتيجية فعالة للتصدي للتهديد الإيراني مع الحفاظ على وحدة المجتمع الدولي.