علينا أن نقر بأن نظام ملالي إيران يحتضر ويعيش شهوره وربما أسابيعه الأخيرة في الحكم، فالشواهد الواردة من إيران تشير إلى أن النظام يتجه عبر مجلس الشورى إلى تصعيد الضغوط على الرئيس روحاني، بحيث يقوم بتغيير فريقه الحكومي لتهدئة الاحتجاجات، أو التضحية به شخصياً.
ومن المؤكد أن انضمام رجال أعمال السوق القديم (البازار) بكل ما يمتلكون من ثقل وتأثير في العملية السياسية الإيرانية إلى الاحتجاجات قد منحها قوة إضافية نوعية، حيث قام مئات التجار بإضراب احتجاجاً على انخفاض قيمة العملة.
والأرجح أن المتشددين في النظام يتخذون من هذه الاحتجاجات فرصة لإطاحة الرئيس روحاني من منصبه، وجعله كبش فداء للأزمة الاقتصادية الحالية.. وما يؤكد ذلك أن وسائل الإعلام الموالية للمتشددين تقوم بتقديم تغطية كاملة للاحتجاجات على خلاف المعتاد في هذه الظروف داخل إيران. وكان «البازار» قد لعب دوراً حاسماً في أحداث عام 1979 عندما انضم التجار إلى رجال الدين للإطاحة بالشاه محمد رضا بهلوي. صحيح أن التجار لا يمتلكون هذا النوع من القوة والتأثير الآن، ولكن بشكل رمزي، فإن الرأي في السوق يعد مهماً بالنسبة للإيرانيين.
الواقع الآن أن العملة الإيرانية قد فقدت نصف قيمتها وتتجه إلى انهيار كامل مع بداية تنفيذ العقوبات الأمريكية الجديدة في نوفمبر المقبل، فالشركات العالمية جمعيها ستوقف أي تعامل مع إيران، ومعظم الدول المستورد للنفط الإيراني ستوقف استيراده، وسيتعرض الاقتصاد إلى ضربة هائلة من شأنها زلزلة قواعده بعد فقدان الدخل الرئيس للنفط الذي يمثل نحو 65 % من إجمال صادرات إيران، ويمثل المصدر الرئيس للعملة الصعبة التي تحصل عليها البلاد.
ستتعرض إيران لما تعرض له نظام صدام حسين من قبل، وتواجه نفس الضغوط التي دفعت الزعيم الكوري الشمالي إلى المبادرة بطلب الحوار والتفاوض مع الولايات المتحدة خشية انهيار نظامه، علماً بأن فوارق تحمل ضغوط العقوبات هي لمصلحة كوريا الشمالية في ظل طبيعة شعبها وعزلتها الدولية التامة، فضلاً عن العلاقة بين الشعب والنظام، وهي علاقة في غاية التردي والسوء في الحالة الإيرانية، ويتضح ذلك جلياً في الاحتجاجات الشعبية المتواصلة التي لو ترك لها المجال لاكتسحت مقرات الحكم والرئاسة في طهران وقم على حد سواء.
حدة العقوبات الأمريكية المرتقبة، جعلت الوضع الاقتصادي غير قابل للتنبؤ، وبالتالي فإن السكان باتوا يخشون الاستثمار في الأوعية التقليدية للاستثمار وحماية المدخرات مثل الأصول والعقارات وغيرها، وشهدت البلاد طلب هائل على شراء الدولار واليورو والاحتفاظ بهما بعيداً عن النظام المصرفي خشية انهيار هذا النظام!؛ وقد تسبب كل ذلك في ارتفاعات قياسية للسلع الغذائية المستوردة، خصوصاً بعد صدور قائمة بحظر استيراد أكثر من مائة سلعة، وانحسر نشاط البورصة إلى مستويات دنيا، وما زاد الأمور سوءاً أن الحكومة قرراً رفع رسوم مغادرة البلاد، وكأنها تبعث بإشارة مفادها أن إيران تحولت إلى سجن كبير!.
الإفلاس لم يعد شبحاً يواجه الاقتصاد الإيراني، بل سيناريو مرتقب، والحكومة عاجزة تماماً عن إدارة الأزمة، والظروف باتت مهيأة لأي ضغط أو تدخل خارجي لانهاء نظام حكم الملالي ولكن القرار يتوقف على رؤية الولايات المتحدة للموقف، وهل تريد تغيير النظام وإطاحته أم ستكتفي بالضغط من أجل تعديل المواقف وتليينها والانصياع والرضوخ للمطالب والشروط الأمريكية؟.
السياسان الأمريكيان البارزان نيوت غينغريتش ورودي جولياني حليفا الرئيس ترامب، دعَوَا مؤخراً إلى تغيير النظام في إيران، واعتبرا أن إمكانية تحقيق ذلك باتت اليوم أقرب من أيّ وقت مضى، بعد موجة إضرابات وتظاهرات شهدتها إيران. وحسب مانشر، قال غينغريتش، الرئيس الأسبق لمجلس النواب، وجولياني، الرئيس السابق لبلدية نيويورك، أمام تجمع لمناصري المعارضة الإيرانية في باريس، إن على ترامب زيادة الضغوط على الدول الأوروبية التي لا تزال تسعى للتعامل مع إيران على الرغم من إعادة فرض الولايات المتحدة عقوبات على طهران.
وقال غينغريتش: «السبيل الوحيد للأمان في المنطقة هو باستبدال الدكتاتورية بالديموقراطية، يجب أن يكون ذلك هدفنا». وقال الرئيس الأسبق لمجلس النواب، إنه لا يؤيد تسليح المعارضة الإيرانية، مؤكداً أن على ترامب فرض مزيد من العقوبات بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الموقع مع إيران. وهاجم غينغريتش الدول الساعية لإيجاد سبل تسمح لشركاتها بمواصلة العمل في إيران على الرغم من التهديد بفرض غرامات عليها لخرقها العقوبات الأمريكية. من جانبه قال جولياني «الحرية على قاب قوسين أو أدنى».. مشيراً إلى التظاهرات الأخيرة التي شهدتها إيران.
هذه التصريحات مهمة في بناء رأي عام إيراني ودولي وبناء قضية، ولكن الأسرع منها تأثيراً ومفعولاً هو ما يحدث على الأرض، فالعملة الإيرانية تتراجع بوتيرة متسارعة، وخسر الريال نحو 50 % من قيمته في ستة أشهر، وسجلت البطالة أعلى معدلاتها في وقت يعاني ثلث الشباب ممن هم دون الثلاثين من العمر من انعدام فرص العمل، وهنا تلوح الفرصة للإيرانيين أنفسهم للانقضاض على هذا النظام من دون تدخلات خارجية.
سيفشل رهان نظام الملالي على ما يصفونه باقتصاد المقاومة، فالشعب الإيراني الذي يعاني من انعدام الحريات وحقوق الانسان لن يرتضي تحمل مزيد من المعاناة لتحقيق أحلام الملالي، وما يعجل بانهيار النظام أن هيبته قد سقطت بالفعل في ظل عدم مقدرته على إدارة شئون البلاد واختزال إنجازاته في عمليات توسع لا يجني منها الشعب الإيراني سوى مزيد من الإفقار والمعاناة!.
«اتركوا سوريا» رسالة الشعب الإيراني للملالي الذين لم يلتقطوها منذ بدأت قبل أشهر، وعاندوا وكابروا واعتقدوا أنهم الأقدر على فهم احتياجات إيران من شعبها نفسه! فكان خروج «البازار» (حي التجار) تضامناً مع الشعب ضربة قوية وتطوراً مهماً يجعل من الصعب الحديث عن إحكام القبضة مجدداً على حكم البلاد.