رغم أن نظام الملالي الإيراني ينظر بنوع من الارتياح إلى فشل القمة الثانية التي عقدت مؤخراً في هانوي بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون، فإن أي تحليل هادئ للواقع الدولي الراهن يشير إلى أنه لا يصب مطلقاً في مصلحة النظام الإيراني، بل إن الصعوبات التي يواجهها الرئيس ترامب في تحقيق اختراق نوعي كبير في ملف كوريا الشمالية قد يدفعه إلى إعادة الحسابات تجاه إيران، والبدء في مراجعة البدائل المتاحة ودراسة الخيار العسكري باهتمام لأسباب واعتبارات
سأناقشها في هذا المقال.
ارتياح النظام الإيراني يمكن الاستدلال عليه من خلال شواهد عدة أولها تغريدة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، الذي تراجع عن استقالتهن وعاد بنشاط عبر "تويتر" معلناً أن "الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أدرك الآن أن العروض الصاخبة والتقاط الصور وتغيير المواقف لا يصلح مع الدبلوماسية الجادة"، في إشارة واضحة إلى رفض الزعيم الكوري الشمالي طلب الجانب الأمريكي بشأن نزع الأسلحة النووية. وقال ظريف في تغريدته تعليقاً على فشل قمة هانوي بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وزعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، "خضنا عشر سنوات من التحدي إضافة إلى عامين وبمعنى الكلمة آلاف الساعات من المفاوضات لكل مفردة من الاتفاق النووي في صفحاته الـ 150. لن تستطيعوا التوصل إلى اتفاق أفضل من ذلك". وهو يشير هنا إلى مثل هذه الاتفاقات لا تتم في اجتماع عابر، بل تتطلب مفاوضات ماراثونية، ساعياً إلى البرهنة على أهمية الاتفاق النووي الذي وقعته إيران مع مجموعة "5+1".
يعتقد بعض المحللين أن نظام الملالي يبدو المستفيد الأكبر من فشل قمة هانوي، وأن هذا الفشل يؤكد صحة الموقف الإيراني الخاص برفض التخلي التام عن السلاح النووي والبرنامج الصاروخي، وأن تلازم الخطوات واتباع استراتيجية "خطوة ـ خطوة" هي السبيل الأمثل للتعاطي في مثل هذه الأزمات المعقدة، أي أن كل خطوة تتخذ من نظام الإيراني لابد وأن يقابلها خطوة من المجتمع الدولي، وهذا الأمر يبدو منطقياً من حيث الخبرة التفاوضية، ولكن ما حدث بصراحة في الاتفاق النووي مع إيران، أن المفاوض الإيراني المعروف بصبره وقدرته الهائلة على المناورة والخداع التفاوضي استحضاراً لثقافة متجذرة، قد نجح في الالتفاف على مطالب ممثلي القوى الكبرى، واقناعهم بالاكتفاء بتجميد البرنامج النووي الإيراني من دون التطرق إلى مصير هذا البرنامج وأيضاً استبعاد أي نقاش حول القدرات الصاروخية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالقدرات النووية!
نجح المفاوض الإيراني في انتزع مكسب تكتيكي عبر الاتفاق النووي، الذي لم يكن يضاهي سياسة "الخطوة ـ خطوة"، بل جاء ملبياً للمطلب الإيراني على خلاف ما تقصده كوريا الشمالي بشأن نزع جزئي للتسلح النووي مقابل رفع جزئي للعقوبات الدولية، وهو ما يرفضه الرئيس ترامب الذي يطالب بتخلي بيونج يانج يشكل كامل عن ترسانتها النووية من دون شرط أو قيد، على أن يلي ذلك النظر في رفع العقوبات الدولية المفروضة عليها.
لا شك أن نظام الملالي قد وجد نفسه في مأزق حرج للغاية عقب الإعلان في مارس الماضي عن موافقة الزعيم الكوري الشمالي على التخلي عن أسلحته النووية وإجراء مفاوضات مع الولايات المتحدة، لاسيما أن الزعيم كيم جونغ اون قام بتفكيك وتدمير الموقع الذي أجرى فيه تجاربه النووية عقب قمة سنغافورة مباشرة، وربما لعبت هذه الخطوة دوراً في تشجيع الرئيس ترامب على الانسحاب من الاتفاق النووي من أجل تعظيم الضغوط على النظام الإيراني كي يحذو حذو كوريا الشمالية.
وبعد إقرار الرئيس ترامب بفشل القمة الثانية مع كيم جونغ اون في هانوي، التقط نظام الملالي أنفاسه واستعاد بعضاً من عافيته، معتقداً ـ عن تقدير خاطئ ـ أن كوريا الشمالية ستعود كما كانت إلى واجهة أولويات الإدارة الأمريكية، في حين أي تحليل استراتيجي دقيق للمسألة، يؤكد أن الأمر ليس كذلك، وأن جهود ترامب في الملف الكوري الشمالي لم تصل إلى حائط مسدود، ولا يمكن القطع بأنها انتهت، فهناك علاقات بين الزعمين وخط اتصال وحوار مفتوح، وهناك حديث كوري شمالي عن استعداد الزعيم كيم جونغ اون إلى عقد قمة ثالثة مع الرئيس الأمريكي لمواصلة الحوار، ورغم أن البيت الأبيض نفى هذه الاحتمالية لكنها تبقى قائمة وواردة بدرجة كبيرة، حيث يفترض أن يعيد فريق الرئيس ترامب دراسة الموقف وإعادة ترتيب الأوراق التفاوضية، بعد بروز شواهد على أن هناك تقدير استراتيجي خاطئ للموقف الكوري الشمالي، وأن الرئيس ترامب ربما بالغ في فهم نظيره الكوري الشمالي، وهذا ماذهب إليه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الذي قال في المؤتمر الصحفي "أنه لم يكن يتوقع أن المفاوضات كانت صعبة مع الوفد الكوري الشمالي".
صحيح أن سوء الفهم الأمريكي الذي أعقب قمة سنغافورة ربما يكون قد لعب دوراً ما في تشجيع ترامب على الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، بمعنى انه بات على قناعة بأن الضغوط والتهديدات كفيلة بتحقيق أهدافه التي يريدها، فإن هذه القناعة تبقى جزء أصيل من شخصية الرئيس ترامب والمحيطين به لاسيما جون بولتون مستشار الأمن القومي، والسيناريو الأرجح هنا لن يتمثل في تخفيف الضغط عن إيران أو إعادة كوريا الشمالية إلى دائرة التهديد، بل سيكون غالباً عكس التوقعات، وعكس ماسبق تماماً، أي اللجوء إلى تصعيد الضغوط والتهديدات ضد إيران وربما دراسة توجيه ضربة عسكرية إليها ما لم ترضخ للضغوط الأمريكية، وذلك من أجل توجيه رسالة قوية إلى كوريا الشمالية، وهو تبديل للكراسي والمواقع بحيث تحل إيران محل كوريا الشمالية في نقل الرسائل، فبدلاً من أن يستخدم ترامب كوريا لتخويف إيران، سيلجأ على الأرجح إلى التلويح بالعصا في وجه إيران كي يرضخ الزعيم الكوري الشمالي.