استغرب كثيراً عندما اقرأ تصريحات المسؤولين الإيرانيين حول أن نظامهم لا يريد الحرب، وأنهم سيدافعون عن أنفسهم إذا دعت الحاجة، فمن يقرأ هذا الكلام يشعر، وكأن نظام الملالي حمل وديع يعيش في هدوء بينما من حوله يستفزونه بأعمال أو خطط توسعية تنتهك القانون الدولي ومبادئ الأمم المتحدة.
يقول وزير الخارجية الإيراني في معرض نفي تورط نظامه في الهجوم على منشآت "أرامكو" أن "السعوديين أنفسهم لا يصدقون الرواية"، وأنا شخصياً أعيد إليه الاستنتاج ذاته مصحوباً بسؤال: وهل تصدقون أنتم أن مزاعم النفي تنطلي على أحد في العالم؟! من السذاجة أن يعتقد نظام الملالي أن نفي الضلوع في هذه الهجمات وغيرها يحظى بأي مصداقية لدى العالم، فالجميع يعرف أن إيران تدير شبكات الوكالة وتحركها وفقاً لأهواء المرشد الأعلى وقادة الحرس الثوري، فالوكلاء أنفسهم يعترفون علناً، وآخرهم حسن نصر الله زعيم حزب الله اللبناني، بأن خامنئي هو قائدهم فكيف لنا ولغيرنا أن يصدق أي مزاعم تنفي علاقة الملالي بسلوكيات هذه الميلشيات العميلة؟
أحد دوافع هذا السلوك الإيراني الذي يستهين بكل القيم والمبادئ والأعراف والمواثيق والقوانين الدولية هو تردد الإدارة الامريكية ورغبتها المعلنة بشكل غريب في تفادي العمل العسكري، فوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو وصف الهجمات بانها "عمل حربي"، لكنه قال إن بلاده تفضل "حلا سلميا" حسناً الكل يفضل الحل السلمي ولكن ماهو؟ وكيف يمكن تحقيقه؟ ومن أين يمكن البدء؟!.
الوزير بامبيو يعبر بدوره عن وجهة نظر الرئيس ترامب الذي قال "لم يحدث أن كانت دولة أكثر استعداداً من الولايات المتحدة لشنّ ضربات عسكريّة وسيكون ذلك الحلّ الأسهل بالنسبة ليّ"، وأضاف إن "ضرب 15 موقعاً كبيراً في إيران لا يحتاج لأكثر من دقيقة وسيُشكّل يوماً بالغ السوء لإيران" وهذا التصريح ينطوي على تلويح جيد بالعصا، ولكنه سرعان ماينسف أثره بالقول "لكن ليس هذا ما أفضّله".
ترامب يراهن علناً على تغيير المواقف بما يسميه "التحلّي بشيء من ضبط النفس"، وانه استطاع أن "يغيّر مواقف الكثيرين" بهذه الطريقة، وربما يكون هذا قد حدث بالفعل، رغم شكوك المراقبين في نجاعته وغياب الشواهد على تحققه، ولكن الوضع بالنسبة للنظام الإيراني يبدو مختلفاً، فنحن أمام نظام لا يعترف سوى باللغة الخشنة، ولا يجيد الفهم سوى تحت الضغوط، ويلجأ دائماً إلى المغامرة والمجازفة المحسوبة لإخضاع الآخرين، وبالتالي فلا مجال كي يلتقط رسائل التهدئة والتحلي بضبط النفس، الذي يفهم باعتباره نوع من التردد والضعف الاستراتيجي.
لو كان الملالي لا يريدون الحرب بالفعل لما ترددوا لحظة في دراسة عروض البيت الأبيض المتوالية بشأن عقد لقاء بين الرئيسين روحاني وترامب، ولم يكن المرشد الأعلى علي خامنئي يرفض بشكل قاطع عقد أي مفاوضات بين الجانبين في الوقت الراهن...قد يقول قائل أنها مناورات لتحسين الموقف التفاوضي، وهذا صحيح واتفق معه تماماً، ولكن المغزى هنا أنهم يشعرون بالاسترخاء ولا يستشعرون أي قلق جراء عواقب الرفض، فكل مساومة يجب أن تقابل برد فعل من الطرف الآخر، وهنا لا يبدي الجانب الأمريكي أي ردة فعل سوى الانتظار والتريث والصبر الاستراتيجي، الذي يستغله النظام الإيراني في كسب مزيد من النقاط وتحسين موقفه الإقليمي بالاعتداء على بعض دول الجوار تارة، والتمدد استراتيجياً إلى مديات أوسع في دول مثل سوريا والعراق تارة أخرى!
إحدى إشكاليات سياسة الرئيس ترامب حيال الملالي أنه يعتقد أن العقوبات الاقتصادية المشددة تنال من النظام، وهذا اعتقاد خاطئ إلى حد بعيد، فالحاصل أن العقوبات قد طوت صفحة الخلافات بين أجنحة النظام، ومنحته مسوغاً قوياً لتبرير الفشل والفساد وتردي الأحوال المعيشية للشعب الإيراني، لكنها لم تؤثر سلباً مطلقاً في امن واستقرار النظام، كما لم تؤثر في الحرس الثوري الذي يبدو طليق اليد اقليمياً أكثر من أي وقت مضى! العقوبات الاقتصادية قد تكون فعّالة في بعض قطاعات الاقتصاد الإيراني، ولكن حسابات الربح والخسارة تشير إلى أن النظام يقبل بها في حال تم تخييره بينها وبين التعرض لضربة عسكرية، وهذا أمر بديهي فالعقوبات في الأخير تنال من الشعب الإيراني وليس من رؤوس النظام وقادته، أما الضربة العسكرية فقد تنهي هذا النظام أو على الأقل توفر فرصة للشعب الإيراني للإفلات من قبضته الحديدية.
على السيد ظريف أن يكف عن خداع الذات فحيله لم تعد تنطلي على طفل صغير، وعندما يقول إن نظامه لا يريد الحرب، فهو كمن يستخف بالعقول، فلا أحد يريد الحرب، ولكن الملالي لا يعرفون سوى أجواء الحروب ولم يحدث أن كان لديهم خطة تنموية للشعب الإيراني، فمشروعهم الأيديولوجي عسكري طائفي مدمر، لا مكان فيه للتنمية والبناء والإعمار.