لم يكن استهداف إسرائيل إحدى القطع البحرية الإيرانية بالقرب من ساحل جيبوتي مؤخراً سوى حلقة من حلقات الحرب الخفية المستمرة بين البلدين منذ سنوات طويلة مضت. والجديد في هذه المواجهة الممتدة أنها انتقلت إلى ساحل البحر ومضت بوتيرة متسارعة في الأشهر الأخيرة، التي شهدت هجمات بحرية متبادلة على سفن تابعة لإيران أو إسرائيل، وسط حالة إنكار على الأقل من الناحية الرسمية. والتطور الأبرز على صعيد التوتر الإسرائيلي - الإيراني يأتي من قلق الإسرائيليين الواضح من توجهات الرئيس الأمريكي جو بايدن بالعودة للاتفاق النووي الموقع عام 2015 بين إيران وست قوى عالمية.
وبحسب ما نشرت صحيفة «نيويورك تايمز»، فقد اعتبر الإسرائيليون الهجوم على السفينة الإيرانية «ساويز»رداً على ضربات إيرانية سابقة استهدفت سفناً إسرائيلية. وكالعادة، ينكر ملالي إيران طبيعة ومهام هذه السفينة، ويزعمون أنها كانت ترافق السفن التجارية الإيرانية في البحر الأحمر، رغم أن هذا يعني للوهلة الأولى أن لهذه السفينة مهام عسكرية وأمنية، وإلا ما هو الداعي لأن ترافق السفن التجارية؟ ووفقاً لموقع «جلوبال سيكيوريتي دوت أورج» الأمريكي، فإن السفينة الإيرانية تدار بمعرفة الحرس الثوري، وهو أمر منطقي بحكم هيمنة بحرية الحرس على الشؤون العملياتية واللوجستية لسلاح البحرية الإيراني.
التساؤل الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: ما هي فرص انتقال «حرب السفن» إلى حرب شاملة بين إيران وإسرائيل؟ وما هي التطورات المحتملة في سياق التصعيد الراهن؟ وهنا يمكن الإشارة إلى أن سيناريو الحرب الشاملة يبدو أمراً مستبعداً على الأقل في ظل المعطيات الاستراتيجية القائمة، ولكن السيناريو الأكثر احتمالاً هو قيام إسرائيل بعملية عسكرية محدودة ضد المنشآت النووية الإيرانية، ولكن هذا السيناريو يبقى رهن مصير الجهود التي يبذلها الرئيس جو بايدن حالياً لاحتواء التهديدات النووية الإيرانية، بمعنى أن فشل هذه الجهود، أو حتى إعادة إنتاج «خطة العمل المشتركة الشاملة» التي تم توقيعها عام 2015 بمدى زمني مختلف مع الإبقاء على الإطار ذاته، قد يدفع إسرائيل للتفكير جدياً في إجهاض طموحات إيران النووية، والحيلولة دون تأجيل هذا التهديد للأجيال المقبلة.
الحقيقة إن مشكلة إسرائيل، وكذلك دول مجلس التعاون، مع ملالي إيران تكمن في صعوبة التيقن من التزامهم بالاتفاقات التي يوقعونها بشأن برنامجهم النووي، فالواقع يؤكد أن الملالي يستنسخون سيناريو كوريا الشمالية، ويمضون في تنفيذه بدقة متناهية؛ لذا يصعب التسليم بمحتوى أي اتفاق نووي لا يتضمن معالجة شاملة للخطر الإيراني، أو التسليم بأن التكنولوجيا النووية الإيرانية تستهدف فقط الشق المدني، فغياب الشفافية والخداع المتواصل والمنشآت السرية التي تكتشفها وكالة الطاقة الذرية بين الفينة والأخرى خير شاهد على وجود أهداف ونوايا سرية لهذا البرنامج. وبالتالي سيبقى الخلاف بين الجميع حول المدى الزمني الذي يحتاج إليه الملالي للوصول إلى «القنبلة»، ولاسيما أن تصريحاتهم في غضون الأشهر الماضية قد فضحت نواياهم وتحدثوا بوضوح - في إطار الضغط على الإدارة الأمريكية الجديدة - عن إمكانية التنصل من «فتوى المرشد الأعلى» بشأن تحريم امتلاك سلاح نووي، وإصدار قرار بتصنيعه، ما يعني أن المسألة لا تتعلق بالتكنولوجيا النووية ولا القدرات التصنيعية الإيرانية، بل بوجود إرادة سياسية لدى المرشد، قمة هرم السلطة، وهنا لا يمكن لدول كثيرة تقع في نطاق التهديد النووي الإيراني أن ترهن استقرار شعبها وأمنها القومي لفتوى يلوح نظام متهور بإسقاطها بين حين وآخر!
الثابت في العلاقات الإيرانية - الإسرائيلية أن تمركز الميليشيات الموالية للملالي في سوريا، فضلاً عن «حزب الله» اللبناني، يمثل أحد أسباب تصاعد التوتر؛ لأن هذا يعني وجود ذراع طولى للملالي لإلحاق الضرر بإسرائيل وقت اللزوم، بمعنى أن إسرائيل يمكن أن تكون ضحية لحرب إيرانية بالوكالة في حال قرر الملالي ذلك. وبالتالي يصبح السؤال هو: لماذا لم ينفذ الملالي أي ضربة ضد إسرائيل طالما أنهم يمتلكون القوة اللازمة لذلك في سوريا؟ الجواب هو الخوف من رد فعل إسرائيلي انتقامي واسع أولاً، ثم الخشية من غضب الولايات المتحدة الحليف الاستراتيجي التقليدي لإسرائيل ثانياً؛ فالملالي يعرفون جيداً أن بإمكان واشنطن إسقاط نظامهم أو تهيئة الظروف الداخلية لذلك على الأقل، في ظل الغضب الشعبي الإيراني المتزايد جراء تردي الأوضاع المعيشية وغياب التنمية والفساد وانهيار الاقتصاد وغير ذلك، فضلاً عن أن الملالي يمارسون «التقية السياسية» ويغضون الطرف - تكتيكياً - عن ضربات إسرائيلية مؤثرة مثل اغتيال العالم النووي محسن فخري زادة في قلب إيران خشية أن يؤدي أي رد فعل إيراني غير محسوب ضد إسرائيل لإفشال مساعي الملالي الخاصة بإعادة الولايات المتحدة للاتفاق النووي باعتباره «المظلة الاستراتيجية» التي فتحت المجال واسعاً لتحقيق جزء كبير من أحلامهم التوسعية منذ عام 2015. وهذا يفسر إلى حد ما صمت الملالي على عشرات الضربات الإسرائيلية على أهداف عسكرية إيرانية في سوريا طيلة السنوات الماضية (في السابق كانوا يخشون ردة فعل متسرعة من ترامب، وحالياً يخشون إحباط حماس الرئيس بايدن للعودة للاتفاق النووي).
إسرائيل كذلك لا تستطيع المبادرة بتوجيه ضربة عسكرية مباغتة للمنشآت النووية الإيرانية ما لم تحصل على ضوء أخضر أمريكي صريح وواضح بذلك، وبالتالي هناك حذر متبادل وحسابات دقيقة تقود الطرفين إلى تفضيل سيناريو الحرب الخفية بدلاً من التورط في مواجهات مباشرة.
الحقيقة إن ملالي إيران، رغم خطابهم الإعلامي والسياسي الحماسي وأحياناً الناري، ينظرون إلى الضربات والضربات المضادة بمعيار يختلف عما هو معلن، والعبرة لديهم بالمحصلة النهائية التي يربحها النظام، وفق حساباتهم الخاصة بشأن الأرباح والخسائر الاستراتيجية. وعلى سبيل المثال، فإن تنفيذ حلم الوصول لشواطئ المتوسط عبر سوريا ولبنان يستحق - وفقًا لرؤيتهم - التضحية ببعض المعدات القتالية والعشرات أو المئات من عناصر الميلشيات، حتى لو تعلق الأمر بخسارة قائد كبير ومؤثر مثل الجنرال قاسم سليماني.
في ضوء ما سبق يمكن القول إن استهداف إسرائيل أو غيرها للسفينة الإيرانية في البحر الأحمر لا يفتح الباب أمام احتمالية التصعيد العسكري والانزلاق نحو مواجهة أكبر، فالحادثة تندرج ضمن رسائل الردع المتبادلة، التي تستهدف استكشاف حدود القوة والتعرف إلى قدرات الطرف الآخر في المجال البحري، بعد أن مارس الطرفان هذه اللعبة مرات عديدة في ساحات الفضاء الإلكتروني.