ليس جديداً القول بأن الانقسامات في الرأي وتقدير الاوضاع الاستراتيجية بشان الملف النووي الايراني بين الولايات المتحدة وحلفائها الأطلسيين من جهة، وروسيا من جهة ثانية تمثل أحد أبرز أسباب الفشل في تعاطي المجتمع الدولي مع التهديدات الايرانية، المرتبطة سواء بالبرنامج النووي وملحقاته (تطوير الصواريخ الباليستية)، أو بالنفوذ الايراني الاقليمي، وعلاقة نظام الملالي بالتنظيمات والجماعات الفوضوية في منطقة الشرق الأوسط.
هذا الانقسام لم يقتصر على مواقف القوى الكبرى حيال التطورات التي شهدها الاتفاق النووي الموقع مع إيران عام 2015، ولاسيما مايتعلق بالانسحاب الأمريكي منه والانتهاكات الايرانية لبنود هذا الاتفاق، ولكنه يمتد ليشمل مجمل السلوكيات الايرانية اقليمياً ودولياً، حيث تختلف تقديرات القوى الدولية الكبرى أيضاً لأي سلوك عدواني إيراني، وأحدث حلقات هذا الاختلاف جاءت عقب استهداف ناقلة نفط اسرائيلية تبحر في المياه الدولية قبالة سواحل سلطنة عمان مؤخراً، حيث أكدت الولايات المتحدة على لسان وزير خارجيتها انتوني بلينكن "ثقتها" في ضلوع إيران في هذا الاعتداء، بينما قال مسؤول روسي رفيع المستوى هو زامير كابولوف مدير القسم الآسيوي في وزارة الخارجية الروسية، والمبعوث الخاص لأفغانستان ، أنه لا يوجد سبب يدعو للاعتقاد بأن إيران قد تكون متورطة في الهجوم على ناقلة النفط "ميرسر ستريت"، مؤكدا على أنه لم يتم تقديم أي حقائق، وقال كابولوف لوكالة "سبوتنيك": "ليس لدينا أدنى سبب للاعتقاد (أن إيران متورطة في الهجوم)، حيث لا توجد لدينا أي حقائق، وسنغير موقفنا عندما تكون هناك حقائق"، وهذا يعني ـ بافتراض غياب المعلومات الاستخباراتية لدى موسكو في هذا الشأن فعلاً ـ أن الموقف الروسي لا يزال ـ حتى الآن ـ يعتمد على الاعتقاد وتحليل الشواهد، وهو أمر يصب بمصلحة ملالي إيران ويتسبب في حالة انقسام دولي تؤثر سلباً في بناء موقف رادع ضد مثل هذه الانتهاكات للقانون الدولي.
معلوم أن الموقف الروسي في هذا الشأن لن يذهب إلى حد طلب معلومات ودلائل من اسرائيل أو الولايات المتحدة في الإطار الثنائي كي يتفادى بالتبعية بناء موقف يدين الملالي الذي تتلاقى مصالحهم الاستراتيجية مع روسيا في ملفات عدة، ولاسيما في الوقت الراهن حيث تتصاعد التوترات الروسية ـ الأمريكية بشكل يحول دون أي صفقات وراء الكواليس، ولكن تكرار مثل هذه الانقسامات لا يصب مطلقاً في مصلحة الأمن والاستقرار الدولي، الذي يفترض أن القوى الكبرى، ولاسيما دائمة العضوية بمجلس الأمن، تتحمل مسؤوليته انطلاقاً من مسؤوليتها عن تنفيذ المهام التي يضطلع بها المجلس!
المسألة هذه المرة لا ترتبط بقضية خلافية تحتمل الأخذ والرد والسجالات التقليدية التي تدور بين عواصم صنع القرار الدولي، ولكنها واقعة تخص أمن وحرية الملاحة والتجارة الدولية وأمن الطاقة في واحدة من أكثر مناطق العالم حساسية للأزمات العسكرية، لذا كان يفترض النظر إليها من هذا المنظور الذي لا يختلف عليه اثنان، لأن التغاضي عن مثل هذه الانتهاكات والتجاوزات تشجع على تكرارها سواء من الملالي أنفسهم أو من جانب أي دول وجماعات وتنظيمات ووكلاء لأنظمة تحرض على الفوضى والاضطرابات.
ملف ملالي إيران ملىء بالاتهامات التي تشير الدلائل جميعها إلى تورطهم فيها بشكل مباشر أو غير مباشر، وأبرزها الهجوم على منشآت شركة النفط السعودية (أرامكو)، ناهيك عن هجمات عديدة على ناقلات نفط، ولن أشير هنا لعمليات أخرى استهدفت مناطق وقطع عسكرية أمريكية وغير أمريكية، ليقتصر النقاش على استهداف السفن التجارية وناقلات النفط باعتبارها ليست أهدافاً مشروعة لأي عمل عسكري عدواني سواء من جانب الحرس الثوري الايراني أو غيره من الميلشيات والتنظيمات والجماعات والدول أيضاً. ولست هنا من مؤيدي اتهام نظام الملالي الايراني من دون دلائل وبراهين ومعلومات موثقة، برغم الشواهد التي تنسف أي اتهام لغيره، ولكنني ادعو لوحدة الصف الدولي والتعامل بشكل جاد للغاية في مثل هذه الاعتداءات، التي تمس القانون الدولي قبل أن تمس دولة ما، سواء كانت اسرائيل أو غيرها، لأن دول عربية وخليجية أخرى تعرضت لمواقف مماثلة ولم تجد أيضاً أي تحرك دولي يدعم موقفها في هذا الشأن.
المغزى هنا أن الادعاءات التي تروج لها بعض وسائل الاعلام الداعمة للملالي تنطلق من أن هذه العملية تاتي رداً على هجمات اسرائيلية طالت سفن اسرائيلية عديدة طيلة الأشهر الماضية، ولكن حتى بافتراض صحة مثل هذه الادعاءات فإنها لا تعني مطلقاً تبرئة الملالي من تهمة الاعتداء على ناقلة نفط والتسبب في مقتل اثنين من طاقمها، بريطاني وروماني، فضلاً عن أي خبرة بسيطة بتطورات هذا الصراع الخفي تؤكد أنه يمضي سجالاً بين الطرفين، ويصعب فيه القول بأن الملالي قد مارسوا "صبراً استراتيجياً" إزاء مايتعرضون له كما يحلو للبعض القول بذلك، فعمليات التخريب الايرانية تمضي على قدم وساق بحراً وبراً في مناطق عدة لا تخفى على الأعين الباحثة عن الحقائق، وليس لأحد الادعاء بمظلومية هذا النظام الذي تسبب في نشر الفوضى واطالة أمدها بالعديد من الدول.
وأخيراً أقول، آن الآوان كي يدرك المجتمع الدولي خطر استمرار هذه العربدة الايرانية وأن تدرك القوى الكبرى حدود مسؤولياتها الدولية، ومتى تتفق ومتى تختلف وعلى أي قضايا وأي ملفات وتفصل بين العام والخاص في هذا الشأن، وأن يدرك نظام الملالي كذلك أن انتهاك القانون الدولي لن يبقى من دون سقف ولا ردع مضاد، وأن التهديد باستهداف مصالح الدول الأخرى حال تعرض هذا النظام لأي هجوم لن يحول بينهم وبين تحمل عواقب أخطائهم.