هناك مؤشرات تتبلور في الأجواء حول اقتراب مفاوضات فيينا بشأن إحياء الاتفاق النووي من الحسم؛ فبعد ثماني جولات خاضتها وفود الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن بالاضافة إلى ألمانيا، يبدو أن هذه المفاوضات توشك على التوصل إلى اتفاق، ما لم تتراجع إيران عن مواقفها، أو تضع شروطاً جديدة، وتبدي المزيد من التشدد ولاسيما في ظل حالة التأزم الدولية الراهنة بين القوى الكبرى (التوتر بشأن أوكرانيا وتايوان) والتي تصب في مصلحتها تماماً.
بالتلازم مع ماسبق، هناك شواهد أيضاً حول المسار الذي تمضي فيه المفاوضات، من أبرزها استبعاد أو انسحاب ريتشارد نيفيو نائب الموفد الأمريكي الخاص للشؤون الايرانية روبرت مالي، من الوفد المفاوض، حيث اتفقت التسريبات الإعلامية الصادرة عن كواليس اجتماعات فيينا على أن السبب يتمثل في الخلاف المستمر بين أعضاء الوفد على آلية إدارة المفاوضات مع إيران، حيث يعد نيفيو من دعاة تبني نهج أكثر صرامة في التفاوض مع إيران، كونه يمتلك خبرة طويلة في هذا الملف، فهي مزيج من العمل في ملف العقوبات والحد من الانتشار النووي، وخبرة التفاوض مع الايرانيين قبل التوصل إلى خطة العمل الشاملة المشتركة عام 2015، وهو من المدافعين عن إتفاق اوباما ولكنه أيضاً من أصحاب النهج التفاوضي المتشدد، واللافت أن الاستبعاد أو الابتعاد ـ إياً كان المسمى ـ لم يقتصر ـ بحسب تقارير اعلامية ـ على نيفيو بل شمل عضوين آخرين من الوفد الأمريكي المفاوض.
ورغم التعتيم الرسمي الأمريكي على أسباب ابتعاد نيفيو عن المفاوضات، والاكتفاء بالقول أن "الإنتقالات الشخصية في المناصب أمر شائع جداً خلال العام الأول للإدارة"، فإن مانشرته بعض التقارير الصحفية يمكن أن يكشف ولو جانباً مما يحدث، حيث سبق أن أشار تقرير نشرته مجلة "ذا سبيكتاتور" البريطانية إلى أن المفاوضات في جولاتها السابقة لم تكن فعّالة على الإطلاق، ولم يقتصر الأمر فيها على الفشل الذريع في انتزاع أي تنازلاتٍ من طهران، بل إن تجميد خطواتها المتواصلة نحو امتلاك قنبلة نووية بات أمرًا بعيد المنال، فأصبح المفاوضون الغربيون أنفسهم متنازعين فيما بينهم، وتحدث التقرير عن تنازلات كبيرة قدمها روبرت مالي للإيرانيين، ونسب التقرير إلى مصادر دبلوماسية غربية قولها إن مالي هو "المسؤول الأكثر مسالمة على الإطلاق"، وذكر التقرير أن مالي ونائبه (ريتشارد نيفيو، قبل ابنعاده عن المشهد التفاوضي في فيينا) اختلفا على تبني النهج الهادئ، ما أدى إلى خلاف كبير بينهما حتى أنهما، قبل عيد الميلاد (الأخير)، لم يكونا يتحدثان إلى بعضهما البعض في مشهد مثير للدهشة!
في ضوء ماسبق، يربط مراقبين كثر بين ما يمكن وصفه بـ "فلترة" وفد التفاوض الأمريكي، وتخلي إيران عن رفضها بشأن التفاوض المباشر مع الأمريكيين، إثر إشارة أمريكية بشأن أهمية الحوار المباشر، تلاها إعلان وزير الخارجية الا يراني حسين عبد اللهيان عن استعداد بلاده للتفاوض المباشر مع الولايات المتحدة،حيث ينطوي هذا التطور على أبعاد عدة، أخطرها ـ برأيي ـ هو تمسك إدارة بايدن الشديد بالتوصل إلى "أي" اتفاق مع إيران مهما كانت طبيعته أو مداه الزمني، مؤقت أو دائم، ما يعني أن البيت الأبيض يغض الطرف عن تمادي المفاوض الايراني في هدر الوقت والمماطلة رغم التحذيرات الأمريكية المتكررة من "نفاذ الصبر" و"الفرصة الأخيرة" وغير ذلك من مواقف يفسرها الايرانيون في ضوء سلوك الوفد الأمريكي في فيينا وليس من خلال ما يقرؤونه في وسائل الإعلام، أي أن ما يصل إليهم مغاير تماماً للمواقف المعلنة! ورغم أن إعلان الطرفين ـ الأمريكي والإيراني ـ عن الاستعداد لإجراء مفاوضات مباشرة قد يوفر مؤشرات إيجابية بالنسبة للبعض، فإنها تمثل بالنسبة للبعض الآخر نقطة تحول قد تسفر عن المزيد من التنازلات الأمريكية والمكاسب الاستراتيجية الإيرانية.
بعض المراقبين يعتقدون أن الرئيس بايدن يتمسك بالتوصل إلى أي صيغة إتفاق مع إيران ويخشى تماماً أن يؤثر فشل المفاوضات على فرص الحزب الديمقراطي في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر المقبل، لأن الفشل في فيينا يستلزم طرح خيارات بديلة للتعامل مع التهديد الايراني، وهذا أمر يسعى البيت الأبيض لتفاديه تماماً، لذا يتغاضى عن سياسة كسب الوقت التي ينتهجها وفد التفاوض الايراني في فيينا متجاهلاً التحذيرات التي تشير إلى إقتراب إيران من الحصول على قدرات نووية.
الإشارة الأهم على ربط إدارة بايدن بين مفاوضات فيينا وانتخابات الكونجرس أن روبرت مالي قد تحدث مؤخراً بشكل غير مباشر عن الارتباط الشرطي بين العودة للاتفاق النووي مع إيران والافراج عن 4 مواطنين أمريكيين محتجزين لديها، ورغم أن مالي قد كرر الموقف الأمريكي الذي ينص على أن قضية الأشخاص الأربعة المحتجزين في إيران مسألة منفصلة عن المفاوضات النووية، لكنه بات يمهد للقول بأن إطلاق سراحهم شرط مسبق للتوصل لاتفاق نووي، بل اعتبر بعض المراقبون أنه بات شرطاً وحيداً للعودة للاتفاق، حيث قال مالي "إنهما (قضيتان) منفصلتان ونحن نتابع كلاهما. لكنني أقول إنه من الصعب للغاية بالنسبة لنا أن نتخيل العودة إلى الاتفاق النووي بينما تحتجز إيران أربعة أمريكيين أبرياء"، ما يعكس بدرجة كبيرة حدوث تغير في الموقف الأمريكي الذي اعتقد أنه يتجه للحصول على ما يمكن تسويقه للرأي العام الأمريكي باعتباره انجازات دبلوماسية ومكاسب سياسية ترتبت على الاتفاق المحتمل مع إيران، بمعنى أن الافراج عن الأمريكيين الأربعة يمكن أن يحفظ ماء وجه الرئيس بايدن ويوفر له فرصة الادعاء بأن الحفاظ على حياة الأمريكيين أهم من تشديد العقوبات على إيران وغير ذلك.
المفارقة أن إيران، وأيضاً روسيا والصين ودول أخرى بل ميلشيات وتنظيمات، باتت تدرك أن الدبلوماسية الأمريكية بلا مخالب حقيقية، وأن الرئيس بايدن يرفض قطعياً التهديد بالحروب ناهيك عن خوضها، وهذا الوضع يمثل خطورة بالغة على مكانة الولايات المتحدة ونفوذها العالمي.
الخلاصة أن إيران قد نجحت بما يكفي في كسب الوقت والمضي قدماً في مراكمة قدرات نووية سواء خلال فترة التملص من التزاماتها الواردة في الاتفاق النووي منذ انسحاب الرئيس السابق ترامب عام 2018، أو خلال الأشهر التي استغرقتها العملية التفاوضية الحالية، وأي اتفاق قد تسفر عنه مفاوضات فيينا لن يكون في أحسن الأحوال سوى عودة مقيدة أو مشروطة للاتفاق الأصلي الموقع عام 2015، ما يعني أنه لا جديد يذكر على صعيد الأمن والاستقرار الإقليمي بل علينا توقع المزيد من الفوضى الإقليمية الراهنة!