تابعت في الآونة الأخيرة بعض التعليقات ومقالات الرأي التي تفاعلت مع دعوة أطلقها وزير الخارجية الايراني حسين عبد اللهيان من أجل عقد حوار اقليمي شامل يضم كل من السعودية ومصر وإيران وتركيا لمعالجة مشاكل الشرق الشرق الأوسط. وصراحة أن الدعوة للحوار هي بحد ذاتها توجه ايجابي مهم، ولكن الأكثر أهمية ولفتاً للنظر هو مضمون الدعوة التي تنطلق من معطيات ونظرة عفا عليها الزمن وتعكس رؤى مغايرة للواقع الاستراتيجي الراهن.
لا أحد يجادل في قيمة ومكانة القوى الاقليمية الكبرى، ودورها وأهميتها في تحقيق الأمن والاستقرار وضرورة التواصل فيما بينها من أجل تحقيق هذا الهدف الحيوي، ولكن ما يمكن وصفه بالحل والعقد وانهاء التوترات وتسوية النزاعات وطي صفحة الخلافات لا يتحقق بتوافق إرادة قوى معينة دون أخرى، بافتراض حدوث ذلك بالفعل!
وبعيداً عن التشكيك في النوايا وجدية الطرح، فإن الدعوة للحوار بين من وصفتهم التقارير الإعلامية بالكبار لحل قضايا المنطقة تبدو لي ـ كمراقب ـ دعوة مفخخة وتحمل بين طياتها جينات فشلها، والدليل على ذلك هو مصير جميع الدعوات التي أطلقت من قبل وانطلقت جميعها من تهميش أو اقصاء، أو الإنطلاق من حسابات تفرق بين دول المنطقة على أساس الثقل الاستراتيجي والمكانة أو التاريخ أو الأدوار أو حتى التدخل في شؤون الآخرين، وهذه جميعها حسابات وعوامل تغرس بذور الفشل منذ لحظة انطلاق الدعوة وتضمن أن تلاقي مصير سابقاتها من الدعوات! الحوار يجب أن ينطلق أيضاً من فهم متقارب ـ ولا أقول مشترك ـ للسياقات والبيئة الإستراتيجية الإقليمية والدولية، وتحديد الأهداف أو ملامستها على الأقل، وفي حالتنا هذه يبدو الحوار مرتبط بقناعة راسخة لدى الجانب الإيراني بأن دور القوة الدولية الأكثر تأثير في منطقتنا (الولايات المتحدة الأمريكية) يتراجع أو في طريقه للتلاشي والانتهاء، وهذه قناعة لا تلزم الآخرين، وفي الوقت ذاته لا يمكن التسليم بأنها تقف حائلاً دون انعقاد الحوار، ولكن إستيعاب الدوافع والمحركات السياسية مسألة في غاية الأهمية لأن تقاسم الأدوار المفترض ـ وفقاً لفرضية الفراغ الإستراتيجي القائم أو الوشيك ـ سينطلق من معطيات ليست عادلة بحكم تمدد وتوسع قوى إقليمية على حساب قوى ودول أخرى في المنطقة.
المنطق يقول أن أي حوار فاعل وحقيقي يكون بين الأطراف المعنية جميعها، أو بين ممثليها أو من تختار هذه الأطراف، كأن تكون هذه الدول ممثلة في منظمة أو تكتل اقليمي على غرار الاتحاد الأوروبي الذي يمكن أن يتحاور مع الآخرين بشأن المصالح الأوروبية على الأقل في الشق الإقتصادي، وهذا الدور الأوروبي المشترك على محدوديته يخفق كثيراً في تحقيق أهدافه، بالنظر إلى هوة التباين في وجهات النظر والمصالح بين الدول الأعضاء في مجال السياسة الخارجية.
وبالتالي فإن إنتقاء طرف إقليمي لأطراف اقليمية أخرى يتحاور معها من أجل مناقشة قضايا المنطقة وتحقيق الاستقرار هو دعوة إنتقائية بامتياز، ليس لأن الدول المنتقاة موضع خلاف أو رفض، بل لأن الطرف القائم بالإنتقاء ينطلق من رؤية تهميشية استعلائية يعرفها القاصي والداني، وليس سراً أن النظام الإيراني ينظر لمعظم دول الجوار نظرة دونية بل تجاهر بعض أجنحته بأن بعض هذه الدول تابعة لإيران!
برأيي، فإن أي دعوة صادقة وحقيقية للحوار يجب أن تنطلق من قراءة موضوعية صريحة للواقع الجيواستراتيجي والجيوسياسي الراهن، وتاخذ باعتبارها معطيات واعتبارات إضافية عديدة، ولنأخذ اسرائيل ـ على سبيل المثال ـ عند الحديث عن تحقيق الأمن والاستقرار الاقليمي، وليقل لي أحدهم كيف يمكن أن تناقش الأمن الاقليمي بمعزل عن طرف اقليمي فاعل ومؤثر مثلها بغض النظر عن حالة وطبيعة العلاقات القائمة بينها وبين معظم الأطراف الاقليمية الأخرى؟! مثال آخر: كيف يمكن أن تناقش إستقرار العراق أو سوريا من دون تمثيل لهاتين الدولتين بكل ما تمتلكان من مكانة وثقل استراتيجي بغض النظر عن واقع الحال الذي يعرف الجميع أسبابه، أو معظمها على أقل التقديرات، ناهيك عن تجاهل صعود قوى إقليمية ناشئة تمتلك تأثيراً لا يمكن انكاره وتستطيع القيام بأدوار لم يكن لها القدرة على القيام بها قبل عقود مضت، وربما لا يستطيع آخرون القيام بها في الوقت الحاضر.
الحوار بحد ذاته ظاهرة صحية مطلوبة ترتكز عليها العلاقات الدولية على مر العصور، ولكن اختزال الأدوار وارتهان الحاضر للماضي، وتجاهل التغيرات والتحولات وواقع التأثير الإستراتيجي وحساباته التي تنطلق من مؤشرات متنوعة ومتعددة لمفهوم القوة بأطيافها المتنوعة وكذلك التأثير الاستراتيجي، لا يضمن بناء معادلات موضوعية سليمة تسهم في "هندسة" الأمن والاستقرار، فتراجع الأدوار ـ إن صح ـ فهو لا يقتصر على قوى كبرى محددة، وأسبابه عديدة قد لا يكون من بينها الشعارات الدعائية ودعاوى الانكسار والانحسار والهزيمة التي يرددها البعض، بل تغير أولويات وتبدل مصالح، وبالتالي فإن من الضروري بلورة رؤية موضوعية متوازنة لفهم الواقع الدولي والاقليمي قبل طرح مبادرات أو أفكار لمعالجة الأزمات.
الأهم مما سبق أن طرح مبادرة إيرانية في سياق اقليمي تنبه الدول العربية للبحث والتفكير في المرحلة المقبلة وضرورة ألا يترك المجال لأن يكون العرب رد فعل لسلوك الآخرين، كما حدث في العقد الأخير، وهذا دور مراكز الدراسات والأبحاث والنخب العربية للتفكير في مآلات الواقع الاقليمي وسبل التعاطي مع الأزمات العربية المتناثرة شرقاً وغرباً، والبحث عن تسويات وحلول لها سواء بمشاركة بقية الأطراف الإقليمية أو من خلال حواضن عربية.