لم تعد النقاشات حول نهاية النظام العالمي او مايصفه البعض بنهاية العصر الأمريكي مجرد فرضية متداولة داخل قاعات البحث والدراسات المتخصصة، بل انتقلت إلى أرض الواقع منذ سنوات ليست قليلة، وحصلت على قوة دفع كبيرة بفعل أحداث عالمية كبرى مثل جائحة كورونا، واندلاع حرب أوكرانيا، حتى أن حرب محدودة جيوسياسياً مثل غزة باتت تلعب دوراً مؤثراً في تغذية التفاعلات المرتبطة بإعادة تشكل النظام العالمي.
من أحدث الطروحات حول التغييرات الحاصلة في النظام العالمي، ما نشرته مؤخراً مجلة "فورين بوليسي" وقالت فيه إن الدول الغربية أصبحت تفقد مكانتها كقطب للقوة في العالم، ما يفسح المجال أمام روسيا والدول الآسيوية في هذا المجال، واعتبرت المجلة أن العالم يمر بتغيرات استراتيجية تاريخية حقيقية "حيث تجد المزيد والمزيد من مراكز القوة والنفوذ المهمة نفسها بعيدة عن متناول الغرب، وهذا لا ينطبق فقط على منافسيها الواضحين مثل روسيا والصين، ولكن أيضا على الشركاء الظاهريين مثل الهند وتركيا والمملكة العربية السعودية، التي لا تنوي بوضوح البقاء أسيرة للقوى الغربية".
هذا الكلام ليس سوى ترجمة لما نراه يحدث من حولنا إقليمياً ودولياً، ويفسر كذلك الكثير من الظواهر التي لا يجد لها البعض تفسيراً مثل التراجع الملموس في دور وتأثير ونفوذ الولايات المتحدة، القطب الأهم في حسابات النظام العالمي القائم، حيث فشلت الجهود الأمريكية في تسوية نزاعات عديدة خلال الفترة الأخيرة، وقد حدث ذلك في أزمتي غزة والسودان وهما أزمتان كاشفتان لأن الولايات المتحدة ليس لها ارتباط مباشر كما هو الحال في أزمات دولية أخرى مثل أوكرانيا.
تربط "فورين بوليسي" رؤيتها بصعود مجموعة "بريكس" وأن النخب الغربية لم تأخذ هذا التطور على محمل الجد، ولكنني ـ كمراقب ـ لااتفق مع وجهة النظر هذه لأن "بريكس" بكل ما تمتلك من موارد قوة متنامية وتأثير لم تزل في مرحلة التشكل، لم تلعب ـ حتى الآن ـ الدور الذي يمكن الانطلاق منه في بناء حكم قطعي بشأن هرمية النظام العالمي، لاسيما أن الكثير من الأعضاء الجدد الذين اكتسبت بهم المجموعة ثقلاً استراتيجياً متزايدً يمتلكون علاقات متوازن بين الولايات المتحدة ومنافسيها الاستراتيجيين في "بريكس"، فضلاً عن أن أولوياتهم هي الاقتصاد والتجارة وليس المشاركة في صراعات كونية.
المقصود من كلامي أن "بريكس" يمكن أن تكون إشارة لإعادة تشكل قواعد اللعبة في النظام العالمي، ولكنها ليست البرهان الوحيد الدال على ذلك، فحقائق التغيير عديدة ويصعب حصرها وبعضها يتعلق بصعود قوى اقليمية وتنامي نفوذها الاقتصادي والتجاري والاستثماري، وبعضها الآخر يتعلق بتراجع قوى تقليدية مؤثرة او انشغالها بصراعات بينية تستنزف قوتها، ناهيك عن عدم قدرة القوى المهيمنة على النظام العالمي على مجاراة التطور المتسارع في مراكمة أسباب وعوامل القوة الجديدة للدول في قطاعات واعدة مثل الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات ومصادر الطاقة الجديدة وغير ذلك من مجالات جديدة تستمد منها بعض الاقتصادات الصاعدة مصادر قوتها ونفوذها العالمي المتزايد.
النقاش الآن يتمحور حول سؤال مهم: هل انتقل العالم بالفعل إلى مرحلة مابعد الغرب أم لا يزال يقف على عتبة "اللاغرب" كما قالت "فورين بوليسي"؟ وجهة نظري الشخصية أن العالم قد تجاوز العتبة ولم يعد هناك مجال للعودة، ولكنه لم ينتقل بعد إلى مرحلة مابعد الغرب، حيث لا تزال الشواهد تؤكد أن الجميع يمر بمرحلة انتقالية تتشكل خلاله ملامح الأدوار وتوازنات القوى في مختلف المجالات والقطاعات، وبات الغرب ينظر لهذا التحول بواقعية أكبر، وهو ما أشار إليه في مارس الماضي رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان حين قال إن الهيمنة الغربية قد انتهت وإن نظاما عالميا جديدا يجري تشكيله، وقبلها في فبراير كان جوزيب بوريل المفوض السامي لشؤون السياسة الخارجية والأمن بالاتحاد الأوروبي قد قال إن عصر الهيمنة الغربية "قد انتهى"، وحذر من مستقبل قاتم ينتظر أوروبا في حال استمرت التوترات الجيوسياسية العالمية الراهنة، مشيراً إلى اتهامات تلاحق الغرب بازدواجية المعايير داعياً إلى ماوصففه بإجراءات مضادة بالفعال وليست بالكلمات.
إعادة تشكل النظام العالمي أو المرحلة الانتقالية لا تعني أن بالامكان بناء تصور مسبق حول هيكلية النظام العالمي القادم، وهل سيكون نظام متعدد الأقطاب أم يبقى لفترة يعاني سيولة وغياباً للملامح، وهنا يمكن الإشارة إلى أن الأمر ربما يحتاج لبعض الوقت من أجل استشكاف توازنات القوى وبناء تصورات أقرب للواقعية حول ملامح هذا النظام، لاسيما أن قاعدة الدول المرشحة للصعود إلى قمة هرم هذا النظام تبدو غير مؤكدة حتى الآن في ظل تذبذب اداء الاقتصادات والتطور المتسارع في مراكمة موارد القوة والنفوذ، فضلاً عن الضغوط الهائلة التي تمارسها الولايات المتحدة بمساعدة حلفائها الأوروبيين للتأثير في هذه التطورات لمصلحتها، وكذلك حدود استجابة وتفاعل بقية القوى مع هذه الضغوط وردود أفعالها حيالها.
في المجمل، باعتقادي أن النظام العالمي لن يتغير بالشكل والوتيرة التي جرت في مراحل تاريخية سابقة، بل قد يمر بمراحل تغير عديدة، لاسيما في ظل مطالب الإصلاح العديدة التي تطال جميع منظومات العمل الجماعي الدولي، فضلاً عن التراجع الكبير في دور الهياكل التنظيمية والمؤسسية القائمة لدرجة غيابها تماماً عن المشهد الذي تصدرته سياسات فردية أزاحت كل ما كان يتردد حول التعاون الدولي المتبادل وغير ذلك. وتبقى الحقيقة الوحيدة التي يمر بها عالم اليوم وهي أزمة القيادة، فنحن نعيش في عالم بلا قيادة، ومقعد القيادة يعاني فراغاً حقيقياً يفسر تفاقم الأزمات المعضلات من دون حلول.