لا شك أن حرب غزة بين إسرائيل وحركة "حماس" قد سيطرت على أجندة الاهتمام الدولي منذ اندلاعها، حتى أن أزمة دولية كبرى أثرت ـ ولا تزال ـ في اقتصادات دول العالم قد توارت خلف الزلزال الجيوسياسي الذي أحدثه اندلاع صراع مفاجىء في القطاع الفلسطيني، ما مثل تهديداً وجودياً خطيراً لإسرائيل، ودفع حلفائها الغربيين للاصطفاف وإبداء أقصى قدر من الدعم والتعاطف معها.
في ظل ماسبق، غابت أوكرانيا وحربها عن أولويات الاهتمام الرسمي والاعلام، وترددت مخاوف حقيقية من تراجع الاهتمام بها، حيث تشير التقارير إلى أن الجيش الروسي يحقق تقدماً ميدانيا ويواجه بمقاومة اوكرانية أقل بسبب نقص العتاد والأفراد المدربين لدى الجيش الأوكراني. الشواهد تقول أن دعم الغرب لكييف قد بدأ في التراجع نسبياً قبل اندلاع الصراع في غزة، وكانت هناك إشارات دالة على ذلك، ولكن الأخير وفر فرصة للتغطية على هذا التراجع، والمسألة ترتبط باخفاق الجيش الأوكراني في تحقيق أي تقدم عسكري نوعي يقنع العواصم الغربية بمواصلة دعمها العسكري السخي، حيث فشل الهجوم العسكري الأوكراني المضاد الذي تم الترويج له كثيراً في حلحلة الوضع الميداني، فضلاً عن اتساع دائرة الخلاف على الصعيد الأوروبي تحديداً حول مستوى الدعم الذي يقدم لأوكرانيا، لاسيما من جانب دول مثل المجر وبولندا، وربما تتبعهم هولنداً لاحقاً، وإن كان من الصعب القول بأن الدعم الغربي لأوكرانيا سينقطع بالكامل، لأن هناك أبعاد وأهداف استراتيجية تتعلق بالرغبة في هزيمة روسيا أو على الأقل تحسين الشروط التفاوضية الأوكرانية، في أي عملية تفاوض محتملة مع الجانب الروسي.
الولايات المتحدة التي قدمت حتى الآن نحو 45 مليار دولار دعماً عسكرياً لأوكرانيا من الصعب أن تتخلى بشكل مفاجىء عن مواصلة تحقيق أهدافها الاستراتيجية في هذه الحرب، فهي الداعم الأكبر عسكرياً لكييف، وقدمت أكثر من ضعفي ما قدمته أكبر دولة أوروبية داعمة لأوكرانيا وهي ألمانيا التي قدمت دعماً عسكرياً يقدر بنحو 20 مليار دولار. ولكن الحاصل الآن أن الكونجرس الأمريكي يعرقل خطط البيت الأبيض لتمرير مساعدات جديدة لأوكرانيا بقيمة 60 مليار دولار، بينما لم يستطع الاتحاد الأوروبي التوصل إلى تفاهم حول خطة مساعدات تبلغ قيمتها نحو 50 مليار دولار، ورغم وجود احتمالية للتوصل إلى تسوية لتمرير هذه الخطط جزئياً أو كلياً، فإن الوضع الراهن يبعث بإشارات قوية على أنها قد تكون خطط التمويل الكبرى الأخيرة التي تقدم لأوكرانيا.
لعب الصراع في غزة دوراً مؤثراً في منسوب الدعم الغربي لكييف، ولكنه لم يكن العامل الوحيد المؤثر على هذا الصعيد، فهناك عوامل أخرى منها أداء الجيش الأوكراني الذي لم تكن نتائجه على مستوى توقعات الخبراء الغربيين، حيث تم استنزاف كميات كبيرة من مخزونات الأسلحة والعتاد والذخيرة لدى الولايات المتحدة وترسانات حلف "الناتو"، ولم تحقق النتائج المستهدفة، كما أن روسيا نفسها لم تتأثر بالشكل المتوقع جراء حرب أوكرانيا، فلم تتعرض لعزلة دولية كما كان متصوراً، بل إن الرئيس بوتين قام بزيارات خارجية ربما تفوق الكثير من الدول الغربية، حيث سافر خلال العام المنصرم إلى الصين والإمارات والسعودية وقيرغيزستان، وحضر "افتراضياً" قمة دول مجموعة "بريكس" التي عقدت بجنوب إفريقيا، حيث تتوسع المجموعة بقيادة روسيا والصين بشكل متزايد يجعل منها تكتلاً مؤثراً في العلاقات الدولية.
فشل الهجوم الأوكراني المضاد، أو عدم تحقيق النجاح المأمول باعتراف الرئيس زيلينسكي نفسه، لا يعني بالمقابل انتصار روسيا عسكرياً، فالجيش الروسي لم يحقق بالمقابل أي تقدم عسكري نوعي، وتحول الوضع ميدانياً إلى نوع من الجمود بعد ثلاث سنوات من القتال، ويبدو أن الاختراق الوحيد الذي يمكنه حلحلة الوضع يكمن في حراك سياسي ودبلوماسي وليس عسكري، حيث تراهن روسيا على عامل الوقت واقتراب التغيير في السياسات بفعل تأثير الصندوق الانتخابي، حيث تشهد الولايات المتحدة رئاسية في نهاية العام الجاري، يعاني فيها الرئيس بايدن بشدة للفوز بولاية رئاسية ثانية، وتبدو الأمور غير محسومة في نهاية الولاية الأولى للرئيس.
تحليل الواقع يقول إن من الصعب رسم صورة مغايرة للدعم الغربي لأوكرانيا، أو بناء توقعات بشأن حدوث تحول جذري في المواقف، ولكن المؤكد أن الأمور لن تمضي كمان كانت في العامين السابقين على أقل التقديرات، وفي ظل عدم القدرة طرفي الصراع على تحقيق حسم عسكري كامل، فإن آلة الصراع ستبقى على الأرجح بوضعية دفاعية دون الانتقال لأي خطط هجومية نوعية تحتاج إلى موارد كبيرة من الأفراد والعتاد والذخيرة واللوجستيات، بانتظار حسم سياسي يصعب تحققه في الظروف الراهنة، لأن الأمر لا يتعلق بموقفي روسيا وأوكرانيا فقط بل بشبكة معقدة للغاية من الصراعات الدولية التي يرتبط معظمها برسم ملامح عالم مابعد أوكرانيا.