على خلفية المواقف الدولية المتباينة حال مايحدث في قطاع غزة، يتساءل الكثيرون عن موقف الصين، ولماذا لا تضطلع بكين بدور فاعل في هذه الأزمة باعتبارها فرصة ثمينة لتعزيز الصعود الاستراتيجي الصيني، وفي الأجابة عن هذه التساؤلات يمكن الإشارة إلى أن هناك اعتبارات عديدة تحكم موقف الصين، التي تحركت منذ بدايات الأزمة بنشاط ملحوظ، حيث زار المبعوث الخاص للحكومة الصينية إلى الشرق الأوسط، تشاي جون، المنطقة، قبل بدء الهجوم البري الإسرائيلي، لإجراء محادثات لوقف إطلاق النار وحماية المدنيين، وحيث بدا قلق بكين من احتمالات توسع نطاق الصراع وامتداده إلى خارج قطاع غزة باعتبار ذلك "أمر مقلق جداً"، بحسب المبعوث الصيني، ولذا فقد دعا وزير الخارجية الصيني وانغ يي، الولايات المتحدة إلى لعب دور "بناء ومسؤول" في النزاع، وحض على "عقد اجتماع سلام دولي في أقرب وقت ممكن لتعزيز التواصل إلى توافق واسع النطاق".
البيانات الرسمية الصينية تشير إلى موقف الصين الرسمي الذي يحاول الحفاظ على مسافة واحدة من إسرائيل والجانب الفلسطيني، حيث استضاف الرئيس الصيني شي جينبينغ في يونيو الماضي رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في بكين، ووجه دعوة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للقيام بزيارة رسمية لبكين كان مقرراً لها شهر أكتوبر الماضي، تمهيداً لأن تقوم الصين بدور أكبر في تسوية القضية الفلسطينية انطلاقاً من وساطتها الفاعلة بين المملكة العربية السعودية وإيران.
الحفاظ على موقف صيني متوازن في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي يتماهى مع موقف بكين في العديد من القضايا والأزمات الدولية، حيث تحرص على كونها قوة تقف إلى جانب تحقيق السلام والعدل وضمان الأمن والاستقرار الدوليين، وتعتبر ذلك من ضمن ثوابت سياستها الخارجية، فضلاً عن أن الحسابات الاستراتيجية تملي على بكين ضرورة التزام الحياد ، لاسيما في ظل تداخل مصالحها بين إسرائيل وحلفائها الغربيين من ناحية، وبين حركة "حماس" كطرف فلسطيني ـ عربي، بالاضافة إلى الدول العربية وإيران الشريك الاستراتيجي المهم للغاية بالنسبة لبكين من ناحية ثانية.
بلاشك أن الصين لديها مصالح استراتيجية مؤكدة في التمسك بهذا الموقف المتوازن أهمها أن بكين ترغب في تفادي التورط في الصراع المعقد للغاية بين الجانب الفلسطيني وإسرائيل، ولاسيما بعد ما حدث في غزة، على اعتبار أن الحفاظ على المصالح الاستراتيجية وبالاخص الاقتصادية والتجارية للصين مع جميع الأطراف الشرق أوسطية أولوية قصوى بالنسبة لبكين، ثانيها أن الشواهد تقول أن كل ما يحدث من تفاعلات اقليمية ودولية بشأن أزمة غزة يصب في مصلحة المنافسين الاستراتيجيين للولايات المتحدة وفي مقدمتهم بطبيعة الحال الصين وروسيا، حيث يتراجع نفوذ الغرب ومكانته وعلاقاته مع حلفائه الشرق أوسطيين، وهذا الأمر يصب في مصلحة بكين بالدرجة الأولى حتى وإن لم تضطلع بدور مؤثر لملء الفراغ الناجم عن عدم قدرة الولايات المتحدة على لعب دور مؤثر في انهاء حرب غزة.
لا يجب أن ننسى أيضاً أن اضطلاع الصين بأي دور مخالف لما تريده إسرائيل سيكون خصماً من رصيد بكين الاستراتيجي، حيث يمتلك الجانبان علاقات تعاون قوية لا تريد الصين التضحية بها بأي حال، ولذلك يبدو الدور/ الحراك الصيني الحذر في هذه الأزمة ضمانة لتحقق المصالح الصينية والخروج بأكبر قدر من المكاسب في أزمة يعتقد أن الكثير من القوى الدولية قد فقدت الكثير فيها، لاسيما أن غزة جاءت في خضم ازمة دولية كبرى أخرى هي أوكرانيا التي وضعت الغرب في مأزق استراتيجي صعب للغاية.
المؤكد أن الصين تدرك تماماً انها تحقق مكاسب جيوسياسية حتى وإن بقيت صامتة أو غابت غياباً تكتيكياً في أزمات مثل أوكرانيا وغزة، ولكن الجانب الإسرائيلي قد يرى في موقف بكين دعماً غير مباشر للجانب الفلسطيني، حيث يشبه البعض موقف الصين في أزمة غزة بموقفها من الغزو الروسي لأوكرانيا، والذي يعتبره الغرب داعماً لروسيا، ولكن تحليل الشواهد يشير إلى أن موقف الصين يبقى أقرب إلى كونه موقف الضرورة، الذي يحفظ لها مصالحها الحيوية لدى الجانبين العربي والإسرائيلي، فضلاً عن الاحتفاظ بكونها وسيط محتمل في أي مفاوضات سلام لتسوية الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، لاسيما أن بكين لا تصنف "حماس" منظمة ارهابية على غرار الدول الغربية.
ثمة وجهة نظر أخرى ترى أن الصين تراهن على أن موقف الغرب من الدفاع عن حقوق الانسان في أزمة غزة يعزز موقف الصين الذي يتهم الغرب دائماً بالتحيز وعدم الجدارة عند طرح ملف حقوق الانسان في الصين ضمن الخلافات المثارة مع بكين، حيث اعتادت الولايات المتحد اتهام الصين بارتكاب "إبادة جماعية" لأقلية الأيغور المسلمة في البلاد، وهو ما ترفضه بكين وتعتبره نوع من ازدواجية المعايير الغربية.
بالأخيرة تبقى إدارة الصين لموقفها تجاه أزمة غزة عقلانية وتتوخى مصالح بكين الجيوسياسية، خصوصاً أن جميع المعطيات تصب في مصلحتها، حيث ينحسر الدور والهيمنة الأمريكية بشكل تدريجي، وهو مايصب بمصلحة الصين وروسيا من دون أن يتحملا الأعباء الاستراتيجية التي تتحملها الولايات المتحدة بغض النظر عن مدى التزامها بالقيام بدورها في هذا الشأن من عدمه، علاوة على ان انشغال الولايات المتحدة وحلفائها بما يحدث في غزة واكرانيا يمثل بحد ذاته أحد أكبر مكاسب الصين من خلال تراجع اهتمام واشنطن بمواجه