كشفت زيارة الرئيس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لكل من دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية مؤخراً عن حقائق جديدة على رقعة الشطرنج الاقليمية والدولية، فروسيا باتت شريكاً استراتيجياً قوياً لكل من الدولتين الخليجيتين، والزيارة الأخيرة للرئيس بوتين لها رمزية كبيرة لاسيما إذا نظرنا من زاوية المتاعب الاستراتيجية المتنامية التي تواجهها الولايات المتحدة والغرب سواء في أوكرانيا أو الشرق الأوسط.
يرى بعض المراقبين أنه ليست هناك لحظة سانحة لتعزيز النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط أكثر من اللحظة التي توفرها الظروف الإقليمية حاليا، وهذه حقيقة يفهمها ويوظفها الجانب الروسي جيداً في تعميق نفوذه وتقوية الروابط مع الدول المؤثرة في المنطقتين الخليجية والعربية. وهذا مايفسر تاكيد الرئيس بوتين على أن دولة الإمارات هي أكبر شريك لروسيا في العالم العربي، مشيراً خلال محادثاته مع صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة ـ حفظه الله ـ على أن حجم التبادل التجاري بين البلدين قد ارتفع في العام الماضي بنسبة 67.6%، وفي سبيله إلى الازدياد هذا العام، كذلك ازداد التعاون في مجال الاستثمارات، والتعاون الصناعي، وهذه جميعها مؤشرات لها دلالات عميقة ولا يمكن القفز عليها في مناقشة الدور الروسي في الشرق الأوسط.
"المستوى الرفيع وغير المسبوق" الذي ارتقت إليه العلاقات بين روسيا ودولة الإمارات كما وصفه الرئيس بوتين، له معان مهمة لاسيما في ظل علاقات الصداقة القوية التي تجمع قيادتي البلدين، اللتان تربطهما شراكات تعاون كبرى في المجالات الاستثمارية والنفطية والغازية، فضلاً عن أن قطاع السياحة بين البلدين يشهد نمواً متسارعاً، حيث زار الإمارات ما يقرب من مليون سائح روسي خلال العام الجاري، بالاضافة إلى أن الإمارات تعد أكبر مستثمر عربي في الاقتصاد الروسي.
ما يقال عن العلاقات الروسية الإماراتية يتشابه إلى حد كبير مع علاقات موسكو مع المملكة العربية السعودية، وهي علاقات بالغة الأهمية لأسواق الطاقة العالمية، فضلاً عن أن عضوية الدول الثلاث في تكتل "بريكس" يوفر قاعدة مشتركة للتعاون والتنسيق في ملفات عدة اقتصادية وتجارية واستثمارية، وهذا كله ينعكس بطبيعة الحال على الخارطة الجيوسياسية العالمية.
المؤشر الاستراتيجي الأهم بالنسبة للمراقب أن كل من المملكة العربية السعودية والإمارات تدير علاقاتها مع القوى الدولية بشكل مغاير لما ساد في سنوات وعقود سابقة، وأن هناك رؤى استراتيجية جديدة قائمة على التعددية والتنوع والانفتاح على الجميع في إطار علاقات متساوية تضمن تنوع بدائل السياسة الخارجية وتوفر هامش مناورة كبير للدبلوماسيتين الاماراتية والسعودية، بما ينعكس على مكانة الدولتين ونفوذهما وقدرتهما على تحقيق أهداف سياستهما الخارجية حيال مختلف القضايا والملفات.
لا أحد يجادل في أن تقوية العلاقات الروسية مع كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات يلفت انتباه الغرب، وربما يثير التبرم في عواصم غربية عدة، ولكن هذا الواقع الجيوسياسي بات يفرض نفسه، ونجحت دول مجلس التعاون في تأكيد رسالتها وتوجهاتها الجديدة، حيث تحتفظ الرياض وأبوظبي بعلاقات مميزة مع جميع القوى الدولية دون استثناء أو أفضليات، وتستطيع أن تدير شبكة العلاقات هذه بعيداً عن الاستقطاب وسياسات التحالف والمحاور، وهي استراتيجية مفيدة للغاية في ظل حالة الفوضى والارتباك التي تطغى على العلاقات الدولية منذ اندلاع حرب أوكرانيا وربما قبلها بسنوات قلائل.
روسيا تدرك تماماً أن هناك علاقات شراكة قوية للغاية بين كل من المملكة العربية السعودية والإمارات من جانب والولايات المتحدة من جانب آخر، وتلتقط بذكاء الرسائل التي تبعث بها السياسة الخارجية الجديدة للدولتين، وتتعاطى معها بدقة واهتمام، وتراهن على بناء قاعدة مصالح مشتركة تتيح لموسكو مستوى من التنسيق والتعاون والتفاهم ربما لا يقل عما تحظى به وشنطن في العاصمتين الخليجيتين.
من مصلحة دول مجلس التعاون وغيرها من دول المنطقة أن تكون هناك قواعد أكثر عدالة وشفافية في النظام العالمي، ومن مصلحتهما كذلك أن يكون لهما نفوذ ومكانة ودور يوازي قدرتهما على التأثير ودورهما الفاعل في التوازنات الاقليمية والدولية وبما يواكب مصالحهما ويحقق أهداف السياسة الخارجية للبلدين المؤثرين إقليمياً ودولياً. وبالتالي فإن روسيا أو الصين أو الهند أو غيرها من القوى الدولية ليست القطب البديل من وجهة النظر الخليجية، بل هناك رؤى قائمة على بناء قاعدة مصالح مشتركة مع الجميع بعيداً عن الانخراط في دوائر التجاذب والصراع التي يمكن لها أن تؤثر سلباً في مصالح دول مجلس التعاون وتحد من قدرتها على تحقيق مشروعاتها وخططها التنموية الطموحة.