تابعت في الآونة الأخيرة الكثير من التقارير الإعلامية التي تتحدث عن إرهاصات نقاش أوروبي ـ أمريكي حول الخروج من مأزق اوكرانيا، وسبل تحقيق ذلك، ورغم أن المفاوضات لم يعلن عنها رسمياً بعد، فإن الأمر لا يبدو مفاجئاً، فكل الصراعات والحروب لابد لها وأن تنتهي على مائدة تفاوض مهما طال الزمن، وقناعتي أن التوصل إلى هذه الخلاصة قد بدأ من قبل اندلاع أزمة غزة، ولكن ماحدث أن تفاقم الأوضاع في هذه الأزمة قد عجّل بالدفع باتجاه البحث عن تسوية سياسية في أوكرانيا وذلك لأسباب واعتبارات عديدة في مقدمتها صرف الأنظار دولياً عن أوكرانيا بما أفسح المجال أمام الجانب الغربي تحديداً للتفكير بعمق في موقفه بعيداً عن الشحن وضغط الإلتزامات والوعود التي قدمت لأوكرانيا ووفر فرصة ثمينة لبناء تصور استراتيجي جديد يمكن تسويقه للرأي العام في تلك الدول. ثمة سبب آخر يدفع باتجاه البحث عن تسوية سياسية في أوكرانيا، هو أن التململ من صعوبة تنفيذ الوعود والالتزامات التي قدمت لأوكرانيا قد بلغ مداه لاسيما في بعض الدول الأوروبية، فضلاً عن الانقسامات التي يشهدها الكونجرس الأمريكي حول حجم الدعم العسكري والمادي الذي تقدمه إدارة بايدن لأوكرانيا، وقد تزايدت هذه الانقسامات في ظل أعباء جديد تتعلق بتقديم دعم مالي وعسكري ضخم لإسرائيل، ناهيك عما ينتظر من طلبات إسرائيلية لتعويض خسائرها سواء على المستوى الاقتصادي أو على صعيد مخزونات الأسلحة والعتاد لضمان أمنها.
ثالث هذه الاعتبارات أن الصراع العسكري في أوكرانيا قد وصل إلى طريق مسدود، ولا حلحلة نوعية فارقة تحدث على الصعيد الميداني، حتى أن تقدم أي من القوتين الأوكرانية أو الروسية لم يعد يذكر، واستقر الأمر على مناوشات تتسع أحياناً وتضيق أحيان أخرى لنفاد بنك الأهداف الخاص بالجانب الروسي، والصعوبات العملياتية التي تعوق تقدم الجيش الأوكراني، لذلك فإن خط الجبهة بين الطرفين لم يتغير منذ نحو عام، وبات الهجوم الأوكراني المضاد محلك سر منذ يونيو الماضي، واعتقد أن هذه الحالة التي لا يمكن أن تستمر من الدوافع القوية باتجاه ضرورة البحث عن مخرج من التأزم الحالي، لاسيما أن الجانب الأوكراني هو الخاسر الأكبر في استمرار هذا الوضع فضلاً عن الأعباء التي تقع على كاهل الموازنات الغربية. رابع هذه الاعتبارات هو اندلاع حرب غزة، التي يخشى الغرب أن تتطور وتتسع لتشمل أطرافاً إقليمية أخرى، وهو احتمال وارد بدرجة ما ولا يمكن استبعاده، وبالتالي يحتاج الأمر بشدة إلى "تبريد" جبهة أوكرانيا، تحسباً لدخول الولايات المتحدة وحلفائها صراعاً عسكرياً جديداً في حال تعرضت إسرائيل لتهديد كبير من أطراف خارجية، فضلاً عن أن الصراع الدائر في غزة قد لفت انتباه الغرب إلى المعضلة الاستراتيجية التي تعانيها الولايات المتحدة وحلفائها من أجل الحفاظ على المكانة والنفوذ في النظام العالمي الذي يتشكل بهدوء على وقع التغيرات الجيواستراتيجية الراهنة في مناطق مختلفة من العالم.
الحديث الدائر الآن ان النقاشات بدأت "بهدوء" بين الجانبين الأوروبي والأمريكي، لبلورة صيغة مشتركة تسهم في فتح الطريق للتوصل إلى حلول وسط في أوكرانيا، وهذا ما عبر عنه السيناتور الجمهوري الأمريكي تومي توبرفيل بالقول إنه حلت في الوقت الراهن "لحظة جيدة" لبدء المفاوضات بين أوكرانيا وروسيا، لأن النزاع بات يحتاج إلى حل، ولا يوجد سبب لاستمراره، على الجانب الآخر نجد أن روسيا تتبنى موقفاً رسمياً قائم على أنها "كانت ولا تزال منفتحة على الحل الدبلوماسي للأزمة ومستعدة للرد على مقترحات جادة حقاً"، وحيث يبدو أن أي حل لن يكون على حساب روسيا بشكل عام والواقع يقول أن التفاوض سيكون عن مساحة الأرض التي ستتخلى عنها روسيا أو الصفقة التي يمكن التوصل وتحفظ ماء وجه الغرب وأوكرانيا وفق صيغة لا غالب ولا مغلوب، وحيث يمكن لكل طرف ادعاء تحقيق النصر، وهي صيغة أقرب إلى الواقع الفعلي، لأن هناك مكاسب ميدانية عسكرية روسية توازيها خسائر استراتيجية باندفاع حلف الأطلسي واقترابه أكثر وأكثر من حدود روسيا بدلاً من حدوث العكسن وربما تكون هذه النقطة تحديداً من أبرز نقاط التفاوض المرتقب بين الطرفين، على الأقل لأن روسيا قد لا تقبل بحصول أوكرانيا على عضوية الحلف، في حين حصل الحلف بالفعل على مكسب مهم بالتوسع شرقاً وانضمام أعضاء جدد أبرزهم فنلندا التي انضمت رسمياً في ابريل الماضي، والسويد التي على وشك الانضمام الرسمي بعد التوصل إلى تفاهمات حول تحفظات تركيا.
بشكل عام، الأمر لا يقتصر على تسريبات إعلامية، فهناك أيضاً إشارات سياسية رسمية لا يمكن اغفالها، حيث أكد الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون مؤخراً إن الوقت قد يحين لمفاوضات نزيهة وجيدة مع روسيا لايجاد حل بشأن أوكرانيا، ورغم ان ماكرون قال إن هذه اللحظة لم تأت بعد، فهو يبدو ماكرون كمن يهيىء الأجواء لخطوة تقترب، ومثل هذه التصريحات معروفة وتهدف إلى الهبوط من أعلى الشجرة.
يبقى موقف الرئيس الأوكراني زيلينسكي الذي يتمسك بضرورة انسحاب القوات الروسية من بلاده قبل أي مفاوضات، وهو موقف سيكون موضع نقاشات غربية صعبة مع كييف لايجاد مخرج مناسب يكون بداية نقطة التفاوض المحتملة مع روسيا.
غزة إذاً تُقدم طوق النجاة لخروج الأطراف المتصارعة في أوكرانيا بما يحفظ ماء وجه الجميع، ولكن من يقدم طوق النجاة لغزة نفسها بعد أن بات مصيرها في مهب الريح؟ هذا هو السؤال الذي يتعين على الأطراف الاقليمية والدولية جميعها العمل من أجل الإجابة عليه.