بعد نحو عامين من فشل المجتمع الدولي في معالجة أزمة أوكرانيا، عاد الانقسام ليخيم مجدداً ويثبت أن حالة الاستقطاب الدولي تتفاقم وتتعمق وتقود العالم إلى حالة غير مسبوقة من الفوضى والاضطرابات. بالأمس القريب فشل مجلس الأمن الدولي في اعتماد مشروع قرار صاغته روسيا متضمناً الدعوة إلى وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة "حماس" لأسباب انسانية. ولم يحصل القرار على الحد الأدنى المطلوب لصدوره، حيث أيد مشروع القرار خمسة أعضاء وعارضه أربعة وامتنع ستة اعضاء عن التصويت، وهو مشهد مٌعّبر للغاية عن حدة الانقسام الدولي إزاء ما يدور في غزة، حيث كان الهدف من مشروع القرار وقف الاندفاع وتشجيع الجانب الإسرائيلي على التفكير بهدوء بعيداً عن الرغبة في الرد والانتقام من الهجوم الذي شنته حركة "حماس" وتسبب في وقوع ضحايا وأسرى من المدنيين الإسرائيليين.
بلاشك أن غزة تتحول تدريجياً إلى ساحة جديدة لصراعات النفوذ بين القوى الدولية الكبرى، فروسيا ترى أن هناك فرصة كبرى للنيل من الغرب على خلفية مواقفه الداعمة لإسرائيل بشكل مطلق، ناهيك عن أنها ترى في انشغال جميع العواصم الغربية بما يدور بين إسرائيل وحركة "حماس" تشتيت لانتباه هذه العواصم وصرف أنظارها ولو قليلاً عما يدور في أوكرانيا، حيث يتوقع الكثير من المراقبين أن يتحسب قادة الدول الغربية لاندلاع صراع واسع النطاق في الشرق الأوسط، واحتمالية تحول هذا الصراع إلى حرب شاملة تضطر الجميع للتدخل بشكل مباشر، وهذا كله يعني بالضرورة الحد من تدفقات الدعم العسكري لأوكرانيا والحفاظ على مخزونات الأسلحة والعتاد تحسباً للسيناريوهات المحتملة في مناطق أخرى مثل الشرق الأوسط.
روسيا من مصلحتها أيضاً أن تغرق الولايات المتحدة في صراع عسكري جديد بالشرق الأوسط، بل إن هذا السيناريو التخيلي يمثل وضعاً مثالياً تستطيع فيه روسيا الانفراد بأوكرانيا وتنفيذ خطتها بشكل كامل، وإجبار الدول الأوروبية على التراجع عن مواقفها والقبول بما تعرضه روسيا لتسوية الأزمة في أوكرانيا، فضلاً عن سعي الرئيس بوتين لاستغلال الموقف الأمريكي ومعطياته لترسيخ النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط. فضلاً عن أن أي تراجع في علاقات الغرب بشكل عام مع الدول العربية والإسلامية يصب في مصلحة روسيا والصين بشكل تلقائي.
الولايات المتحدة لا تستطيع أن تتخلى مطلقاً عن إسرائيل، وهذه إحدى حقائق العلاقات الدولية، بل إن من يتابع تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن ووزير خارجيته انتوني بلينكن وقادة الكونجرس يدرك حجم التأييد الأمريكي المطلق لإسرائيل، ولا تخشى واشنطن في هذا الشأن تأثر موقفها في أوكرانيا أو مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، بل لم تأخذ بالاعتبار حسابات الربح والخسارة المرتبطة بموقفها في أزمة غزة، على مكانة الولايات المتحدة ودورها عالمياً.
ما يهمنا في هذا المقال هو تداعيات هذا الصراع والتنافس الدولي على أمن واستقرار المنطقة، حيث يصعب التكهن بأن هناك بصيص أمل في التوصل إلى توافق دولي للدفع باتجاه تسوية الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، ولاسيما أن الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته لم يستطع الفصل بين دعمه لإسرائيل، وهذا أمر متوقع تماماً، وبين تغذية الهاجس الديني والزج بالدين في صراع هو سياسي/ حقوقي بامتياز، بل إن الرئيس بايدن قد غامر بمصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية واندفع وراء خطاب عاطفي لا يمت للدبلوماسية بصلة، مداعباً أهواء الناخبين الأمريكيين، ومتمحوراً حول فكرة الحفاظ على كرسي الرئاسة دون أن يدرك عواقب خطابه المثير للانقسامات الدينية في منطقة طالما كان الدين هو القنبلة الموقوتة التي تخيم على أجوائها، حتى أن هذه الكلمات من شأنها أن توفر للمتطرفين والارهابيين، الغطاء لنشر أيديولوجيتهم الدموية بدعوى الدفاع عن الإسلام والمسلمين في هذا الصراع الديني!
من المتوقع ألا تقتصر تداعيات أزمة غزة على نطاقها الجغرافي، ولا حتى على المحيط الشرق أوسطي، بل ستخلف آثاراً شديدة على أزمة أوكرانيا، وعلى أجواء الأمن والاستقرار العالميين، فالشعوب في مختلف دول العالم تتابع مايجري سواء بين إسرائيل و"حماس" أو بين روسيا وأوكرانيا، وتتابع كذلك مواقف الدول والحكومات، وكيف تقف المنظمات الدولية عاجزة تماماً عن حتى إصدار بيان مشترك.
وقناعتي أن أخطر ماقيل في أزمة غزة هو تورط بعض القادة والمسؤولين الغربيين في تصور الصراع باعتباره صراعاً دينياً بين الإسلام واليهودية، وهذه هي السقطة الكبرى التي لم يكن لأحد من العقلاء السقوط فيها لأن عواقبها لن تقتصر على النطاق الجغرافي الشرق أوسطي، بل ستطال إشعال فتنة كبرى وصراع ديني يشمل العالم أجمع، والمسألة هنا لا تقتصر على توابع انتشار الإسلامفوبيا وغير ذلك من ظواهر سلبية، بل تطال تغذية الفكر الارهابي المتطرف وتوفير بيئة ملائمة لتكاثره وانتقاله من مجتمع لآخر، ونسف الجهود التي بذلت طيلة سنوات طويلة مضت لنشر ثقافة التسامح والتعايش ومكافحة الكراهية والتحريض والرد على مروجي نظريات صراع الحضارات والأديان.