بعد عام من حرب روسيا في أوكرانيا، وخلال زيارته مؤخراً إلى كييف ووارسو، كثف الرئيس الأمريكي جو بايدن خطابه الخاص بتقسيم العالم إلى أخيار وأشرار، وديمقراطيين ومستبدين، بوصم أي متحدٍ للنموذج الغربي بأنه ضمن "الطغاة"، وهو توصيف كارثي بكل المقاييس لأنه يضع ـ للوهلة الأولى ـ نصف سكان العالم تقريباً في سلة دول معادية للنموذج الغربي! واللافت أن يأتي هذا التقسيم مباشرة عقب أزمة "كورونا" التي عانى فيها العالم غياباً للدور الأمريكي بشكل خاص والغربي بشكل عام، سواء لجهة الحصول على اللقاحات والأدوية، أو حتى لإدارة الأزمة ومحاولة الحد من تداعياتها على الإقتصادات والشعوب.
الواضح أن الرئيس بايدن، الذي يفكر في خوض إنتخابات الرئاسة الأمريكية للفوز بولاية ثانية، يسعى لتسويق دور الولايات المتحدة في أزمة أوكرانيا كإنجاز سياسي يحسب له شخصياً وكذلك لإدارته التي حققت إخفاقات عدة متتالية منذ الوصول إلى السلطة، إبتداءً من الإنسحاب غير المدروس من أفغانستان وصولاً إلى فشل جهود إحياء الإتفاق النووي الإيراني.
الدلالات تشير إلى أنه من الصعب القول بأن الأزمة الأوكرانية قد شهدت إدارة غربية جيدة لأن الأمر لم يكن يتعلق بإدارة للأزمة بقدر ما ارتبط ـ ولا يزال ـ بدعم أوكرانيا عسكرياً دون البحث عن مخرج مناسب لتسوية الأزمة، ودون إعتبار لإحتمالات خروج الأزمة الأوكرانية عن السيطرة وتحولها إلى مواجهة عسكرية شاملة بين روسيا وحلف "الناتو".
المعضلة أن الولايات المتحدة التي منحت ـ منفردة ـ مساعدات لأوكرانيا تقدر بنحو 29.8 مليار دولار، وتقود مجموعة الإتصال الدفاعية الخاصة بأوكرانيا، تسعى جاهدة لضمان هزيمة روسيا في الحرب، ولا تبدي أي نوع من أنواع التراجع عن التصعيد بحثاً عن إدارة حقيقية للأزمة.
تحليل الشواهد يقول أن بايدن بات يرى في موقف روسيا فرصة سانحة لإطالة أمد الهيمنة والنفوذ الأمريكي على النظام العالمي القائم، وذلك من خلال إلحاق هزيمة ـ ولو تكتيكية ـ بالجيش الروسي في أوكرانيا، وإنهاء فكرة تحالف روسيا مع الصين التي تمثل التحدي الإستراتيجي الأبرز للقوة الأمريكية.
انتقل بايدن بشكل واضح وملموس من موقفه خلال الأشهر الأولى للحرب من تقديم الدعم العسكري المحسوب والحذر لأوكرانيا إلى زيارة كييف وإعلان الدعم العسكري الأمريكي المطلق لها، ما يجعل منها حرباً أمريكية ـ أطلسية بالوكالة ومن دون مواربة مع روسيا، وبالتالي فالإدارة الأمريكية لهذه الأزمة بعيدة تماماً عن العقلانية وتمضي وراء فكرة قد تجر العالم بأكمله إلى كارثة حقيقية، لاسيما إذا إندلع صراع مواز في مضيق تايوان في ظل الإستفزازات وإستعراضات القوة الأمريكية المستمرة في المضيق.
تؤكد الوقائع أنه لم تكن هناك دبلوماسية أمريكية في أزمة أوكرانيا، بل هي قيادة أمريكية للمعسكر الغربي في هذه الحرب، فهناك غياب أو تغييب تام للدبلوماسية ولأي جهد دبلوماسي، وهناك إغلاق محكم لأي باب قد يقود للحوار ولو بعد حين، مقابل إصرار مطلق على هزيمة روسيا وحملات إعلامية لتسويق وتبرير الموقف الغربي بزعم الدفاع عن الحريات والنظام الدولي، ويتناسى الجميع خطورة إنكسار قوة دولية نووية كبرى بحجم روسيا، والمسألة هنا لا تتعلق بوضعية روسيا الإستراتيجية فقط بل بموقف رئيسها فلاديمير بوتين الذي لن يقبل حتماً بالوصول إلى نقطة الإنكسار، لأنها ستكون نقطة نهاية حياته وتاريخه السياسي، وبالتالي من الوارد، والمرجح للغاية أن يلجأ إلى كل عناصر القوة الإستراتيجية في جيش بلاده للحيلولة دون سيناريو الهزيمة.
دبلوماسية الرئيس بايدن قائمة الآن على قيادة الغرب وتقسيم العالم إلى معسكرين في سيناريو أشبه بما فعله جورج بوش الإبن عقب إعتداءات 11 سبتمبر الإرهابية، من ليس معنا فهو ضدنا، ورغم أن هناك من وجد تبريراً للفكر الأمريكي في تلك اللحظة التاريخية التي عانت فيها القوة الأعظم إنكساراً غير مسبوق بسبب الإرهاب، فإن ما يحدث الآن يبدو بنظر الكثير من الخبراء والمتخصصين غير مبرر أو في أحسن الأحوال لن يؤدي إلى إستقرار العالم، ولا يصب كذلك في مصلحة الولايات المتحدة على المديين القريب والبعيد، لأن إستبعاد أكثر من نصف دول العالم من معسكر الديمقراطيات ووصمها بالإستبداد والطغيان لن يصب سوى في مصلحة الإسراع بقيام نظام عالمي جديد تقوده، أو على الأقل تحظى فيه بنفوذ أقوى، تلك الدول التي يستبعدها بايدن من رؤيته للعالم.