المواجهة التي جرت مؤخراً بين الطائرتين الروسيتين والمسيّرة الأمريكية، والتي أسفرت عن تحطم الأخيرة فوق البحر الأسود، تعد أحد أخطر المؤشرات على إرتفاع منسوب التوتر والمواجهة غير المباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا. المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، جون كيربي، يقول إن هناك عمليات إعتراض أخرى جرت في الأسابيع، ولكن المؤشر الأخطر في هذا الحادث أنه طيلة نحو 40 دقيقة جرت خلالها المواجهة لم يحدث أي إتصال بين الجيشين الروسي والأمريكي.
صراع مابعد الحادث ربما لا يقل عما جرى في عملية الإسقاط نفسها، فقد أسقط الجيش الأمريكي طائرته المسيّرة في مياه البحر الأسود، في حين ذكرت بعض التقارير أن البحرية الروسية تحاول إنتشال حطام المسيّرة الأمريكية، حيث تخشى واشنطن وقوع تكنولوجيا المراقبة الحساسة للطائرة المسيّرة في أيدي روسيا.
لاشك أن تحليق الطائرات المسيّرة الأمريكية فوق البحر الأسود يمثل أحد أهم جوانب دعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا، حيث تساعد المعلومات الإستخباراتية التي يحصل عليها الجيش الأوكراني من نظيره الأمريكي، في تعزيز الدفاعات الجوية ضد الهجمات الروسية، وأيضاً في شن هجمات ضد تمركزات الجيش الروسي.
خطورة الحادثة تكمن في أن الولايات المتحدة مصصمة على مواصلة نشاط الإستطلاع في مسرح الحادث فوق البحر الأسود، حيث قال جون كيربي، منسق الإتصالات الإستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأمريكي، إن الحادث لن "يردع" الجيش الأمريكي عن تنفيذ مهماته، وقال كيربي: البحر الأسود ليس ملكاً لأي دولة، سنواصل القيام بما نحتاج إلى القيام به من أجل مصالح أمننا القومي في ذلك الجزء من العالم.
على الجانب الآخر، فإن روسيا التي بعثت برسالة قوية إلى واشنطن تصر على أن تتصدى لما تعتبره خطراً على أمنها القومي، ونفت أن يكون الحادث نتيجة "حادث تصادم"، وأشارت إلى أن سلاح الجو الروسي "لم يستخدم الأسلحة ولم يؤثر على المسيرة الأمريكية" التي سقطت في البحر الأسود، وقالت وزارة الدفاع في بيان إن المسيرة الأمريكية حلقت على علوّ منخفض في مناورة "خطيرة" ثم "اصطدمت بسطح الماء".
السفير الروسي لدى واشنطن، أناتولي أنتونوف، قال بعد مفاوضات مع الجانب الأمريكي إن "الطائرات والسفن الحربية الأمريكية لا يجب أن تقترب من حدود روسيا الإتحادية لأن لا عمل لها هناك"، وتساءل أنتونوف "هل يمكن لك تخيل مسيرة من هذا النوع تطير فجأة في سماء نيويورك أو سان فرانسيسكو؟ هل يمكنك تخيل ردّة فعل البنتاغون ووسائل الإعلام الأمريكية؟". ووصف أنتونوف إقتراب المسيرة الأمريكية من شبه جزيرة القرم بالعمل "الاستفزازي" ولكنه قال في الوقت نفسه إن هناك مشاكل في ترسيم الحدود البحرية إذ لا تعترف الولايات المتحدة بسلطة روسيا على القرم. وأكد أنتونوف أن "روسيا لا تريد مواجهة مع الأمريكيين"، وأنها تفضل "علاقات براغماتية تخدم مصلحة الشعبين الأمريكي والروسي".
صعّدت روسيا لهجتها تجاه الولايات المتحدة وحذرتها من إعلان الحرب على "أكبر قوة نووية"، ونٌقل عن السفير الروسي أناتولي أنتونوف قوله في تغريدة على تويتر إن إستهداف أي طائرة روسية في الأجواء الدولية يعد إعلان حرب على أكبر قوة نووية في العالم، في إشارة إلى روسيا. وأضاف أنتونوف أن أي نزاع مسلح بين روسيا والولايات المتحدة سيكون مختلفا جذريا عما وصفها بالحرب بالوكالة التي تشن عن بعد على روسيا في أوكرانيا.
أحد جوانب خطورة هذه الحادثة تكمن في أنها المواجهة المباشرة الأولى والأخطر من نوعها بين الولايات المتحدة وروسيا على خلفية حرب أوكرانيا، ويخفف من وقعها أنها لم تتضمن خسائر بشرية كان يمكن أن تتسبب في إشعال الموقف لاسيما إذا كانت الخسائر من الجانب الأمريكي، حيث يتعرض الرئيس جو بايدن لضغوط داخلية كبيرة بسبب إستمرار دعم أوكرانيا رغم معاناة الإقتصاد الأمريكي. الإحتكاكات الأمريكية ـ الروسية متكررة على مدار التاريخ، وفي كل مرة تقول روسيا أن الوسائط الجوية أو البحرية الأمريكية تدخل المجال الجوي/ البحري الروسي، وتؤكد واشنطن أن قواتها تعمل في المجال الجوي/ البحري الدولي. منطقة البحر الأسود تبدو ساحة مواجهات بحري وجوية مستمرة بين الولايات المتحدة وروسيا ومن قبلها الإتحاد السوفيتي السابق، وقد إزدادات أهميتها منذ سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم في عام 2014 وبعدها حرب أوكرانيا، وقد سبق لهذه المنطقة أن شهدت حوالي 10 حروب منذ نهاية الحرب الباردة، وتحرص روسيا على العمل لإبعاد الدول الغربية عن البحر الأسود، ومن هنا تبرز خطورة نشوب مواجهة عسكرية محتملة بين الولايات المتحدة وروسيا.