أن تستأنف العلاقات بين طهران والرياض أمر، وأن يقوم الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بزيارة إلى المملكة العربية السعودية أمر آخر. وأن يتصافح أو يلتقي الرئيسان المصري والتركي في الدوحة، ويتم الإتفاق على إستئناف الحوار لتسوية الخلافات العالقة أمر، وأن تنعقد قمة ثنائية بين الرئيسين سواء في القاهرة أو أنقرة، أمر آخر. الشاهد في ذلك أن منطقة الشرق الأوسط تقف على أعتاب مرحلة جيوسياسية جديدة، ومن المهم للغاية قراءة هذه التحولات بدقة بالغة.
في تغريدة له مؤخراً، كتب محمد جمشيدي المساعد السياسي للرئيس الإيراني على موقع "تويتر" إن العاهل السعودي قد رحب في رسالته التي بعث بها إلى الرئيس الإيراني بالإتفاق بين البلدين ودعاه إلى زيارة الرياض، حيث رحب رئيسي بالدعوة. وكالات الأنباء ذكرت في تقاريرها أن الجانب السعودي لم يعلق على الخبر ولم تنشر وسائل الاعلام السعودية الرسمية خبر الرسالة التي تطرق إليها جمشيدي. وبعيداً عن مدى صحة تصريح المسؤول الإيراني، فإن الأمر لا ينطوي على غرابة بالنظر إلى التقارب الحاصل في علاقات البلدين خلال الآونة الأخيرة، ولكن المرجح أن يسبق هذه الزيارة سلسلة من الخطوات التمهيدية مثل إفتتاح السفارات والتواصل المباشر، حيث يتم التواصل الدبلوماسي حالياً عبر طرف ثالثا، وكذلك لقاء بين وزيري خارجية البلدين بحسب ماقال وزير الخارجية الإيراني حسين عبد اللهيان، الذي رجح عقد لقاء مع نظيره السعودي فيصل بن فرحان "في المستقبل القريب"، حيث نقل عن عبد اللهيان قوله "خلال الأيام العشرة الماضية، تبادلنا الرسائل عبر سويسرا، وإحدى تلك الرسائل أعلنت إستعداد إيران لحضور إجتماع لوزراء الخارجية واقترحت ثلاثة أماكن لعقد ذلك الاجتماع". ومن الواضح أن هناك مسار زمني تمضي فيه عملية إستنئاف العلاقات السعودية ـ الإيرانية، فبعد نحو ثماني جولات تفاوضية في بغداد ومسقط، إنتقلت المبادرة إلى الجانب الصيني الذي بات وسيطاً مباشراً في هذه العملية، التي ينتظر ان تقود إلى تبادل إفتتاح سفارتي البلدين في غضون شهرين.
في ملف إقليمي مهم آخر، قام وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو بزيارة للقاهرة مؤخراً، في اول زيارة لمسؤول تركي رفيع المستوى لمصر منذ 10 سنوات، ضمن ماوصف بعملية إستعادة العلاقات الكاملة بين البلدين، حيث إلتقى وزير الخارجية المصري سامح شكري نظيره التركي مولود تشاووش أوغلو، الذي أكد انه يجري حالياً التنسيق لعقد لقاء بين الرئيسين عبد الفتاح السيسي، ورجب طيب أردوغان، مؤكداً أن العمل جارٍ لإعادة تبادل السفراء مع مصر "في أقرب وقت ممكن"، مضيفاً أن مصر دولة مهمة في حوض المتوسط، وتعهد بتعاون أكبر بين أنقرة والقاهرة خلال الفترة المقبلة على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري والثقافي، وأن الزيارة الرسمية المتبادلة ستكون متواصلة خلال الفترة المقبلة.
هذين الانفراجين لا ينطويان فقط على انفراجات مماثلة في ملفات وقضايا إقليمية أخرى مثل اليمن ولبنان وسوريا وليبيا وغيرها، بل تمثلان نقلة نوعية في معادلات التعاون والتحالفات الإقليمية، فضلاً عن دلالات إستراتيجية أخرى تتصل بدخول القوى الإقليمية العربية مجدداً على خط التأثير الفاعل فيما يحدث إقليمياً ودولياً بكل ما لذلك من أبعاد وصلات مباشرة بالمصالح الإستراتيجية، والثقل وقدرة التأثير في إدارة الملفات الصراعية المفتوحة في منطقتنا.
التساؤل المطروح على التطورات السابقة يتعلق بشكل وطبيعة التغيير المتوقع في شبكة العلاقات الإقليمية، وهنا يمكن الإشارة إلى أن إنخراط المملكة العربية السعودية في علاقة تعاون قوية مع إيران قد لا يكون مفاجئاً للحليف الأمريكي، على الأقل بالنظر إلى التغيرات التي تطرأ على توجهات السياسة الخارجية السعودية في الأعوام الأخيرة، كما لا يعتقد أن الرياض تتجه إلى بناء تحالفات بقدر ما تسعى إلى ترسيخ بيئة جديدة للأمن والاستقرار الاقليمي، ونزع فتيل الصراعات والتوترات إقليمياً بما يهيىء الأجواء لتحقيق خطط التنمية السعودية الطموحة، والحال نفسه ينطبق على مصر، وبالتالي ليس من المرجح أن يكون لهذه التطورات النوعية المهمة تأثير فيما يتعلق بتغير شبكة التحالفات الإقليمية، ولكن قد يكون له تأثير على سياسات دول إقليمية مثل إسرائيل، التي وضعت لنفسها هدف بناء محور إقليمي بقيادتها لمواجهة التهديد الإيراني، حيث يتعين عليها في هذه الحالة الإستجابة لهذه المتغيرات، لاسيما أن الأجواء الإقليمية الجديدة لا تستهدف بناء تحالفات جديدة أو تغيير علاقات التحالف وأطرافها كما أسلفنا، بل تبريد الأزمات وتسوية الصراعات القائمة.
بلاشك أن ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط يمثل تطوراً إيجابياً نوعياً مهماً، لجهة تحقيق الأمن والاستقرار وترسيخ ثقافة السلام والتعايش وفتح صفحة جديدة في العلاقات الإقليمية، ولكن يبقى كل ذلك مرهوناً بمدى التغير في سلوك بعض هذه الدول ولاسيما إيران، وتعاونها في تسوية الأزمات وتغيير سلوكها بشكل فعلي لا الاكتفاء بمحاولة تحييد القوى الإقليمية المؤثرة والإصرار على سياستها التوسعية التي تسببت في معظم المشاكل والتوترات الاقليمية الراهنة.