يعتبر خطاب الإتحاد مناسبة سنوية يتعرف العالم من خلالها على توجهات البيت الأبيض، وهو إهتمام دولي يرتبط بأهمية الولايات المتحدة ودورها وتأثيرها في صناعة القرار في "معظم" الملفات والقضايا الدولية والإقليمية، ولهذا فقد تابع الكثيرون خطاب حالة الإتحاد الثاني للرئيس الأمريكي جو بايدن، والذي تناول فيه نقاط عدة مهمة أبرزها ما يتعلق بالشان الداخلي الأمريكي، حيث بدا واضحاً أن الهاجس الأكبر لدى دوائر صنع القرار في واشنطن يتمثل في الإنقسام السياسي والحزبي العميق، والذي بات يؤثر في إدارة شؤون البلاد اقتصادياً بعد أن أقتصر تأثيره في البدايات على الشق السياسي.
"كاذب" كان الهتاف الذي ردده نواب الكونجرس الجمهوريين عندما تحدث الرئيس الأمريكي عن توجه البعض داخل الحزب الجمهوري للعمل على وقف برامج الضمان الإجتماعي والرعاية الصحية، ولكن ردة الفعل هذه تبدو معتادة وسبق أن تكررت في حالات مشابهة، ولم ترتق إلى حد ردة الفعل القوية التي أظهرتها نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب السابقة حين مزقت خطاب الرئيس السابق ترامب عقب الإنتهاء من القائه. وبشكل عام فقد أتسم خطاب حالة الإتحاد هذا العام بقدر أكبر من الحماس والتفاعل من جانب بايدن، الذي جاء خطابه الأول العام الماضي باهتاً خالياً من أي نقاط لافتة، ربما بسبب عدم وجود إنجازات أو حتى أهداف يمكن الحديث عنها، على خلاف هذه المرة حيث انطوى الخطاب على نقاط مهمة بعضها مثير للجدل، وهذا عائد بالدرجة الأولى إلى إقتراب الإعلان عن المرشحين لخوض إنتخابات الرئاسة المقبلة، حيث تشير الشواهد إلى أن بايدن يميل بشكل متزايد لخوض الجولة التنافسية المقبلة رغم التقدم في السن.
أبرز نقاط خطاب حالة الإتحاد تتمثل في التركيز الشديد على فكرة "أمريكا أولاً"، وهو الشعار الذي رفعه الرئيس السابق ترامب، حيث حرص بايدن على لفت انتباه الشعب الأمريكي من خلال التركيز على الموضوعات الداخلية في خطابه ومنحها أولوية قصوى، لدرجة أن قضايا دولية مُلحة مثل الحرب الروسية في أوكرانيا لم تستحوذ على الإهتمام الذي تستحقه في الخطاب رغم أنها من العوامل القوية المؤثرة في الاقتصاد الأمريكي. واللافت أن التركيز الكبير على الداخل الأمريكي قد أفقد واشنطن احد أهم ركائز قوتها الناعمة، كأحد المانحين الرئيسيين في مجال المساعدات الإنسانية، حيث لم يتطرق بايدن في خطابه إلى زلزال سوريا وتركيا وما يمكن أن تقدمه الولايات المتحدة على هذا الصعيد رغم أنها قدمت بالفعل بعض المساعدات للبلدين، ولكن تجاهل الإشارة للحدث في هذا الخطاب المهم يعكس عدم قدرة البيت الأبيض على توظيف الأحداث في كسب نقاط إضافية تعزز قوة الولايات المتحدة ونفوذها الدولي الذي يشهد انحساراً وتراجعاً مستمراً خلال السنوات الأخيرة.
وربما جاء هذا التجاهل للكارثة الإنسانية الناجمة عن الزلزال عن سوء تقدير التداعيات وحجم الخسائر البشرية والدمار الذي تسبب فيه. وربما بسبب التركيز الزائد على مخاطبة مشاعر الناخب الأمريكي، من دون تشتيت الإنتباه أو الخوض في ملف المساعدات الخارجية، لاسيما أن بايدن لم يتحدث كذلك عن مساعدات جديدة متوقعة لأوكرانيا، بل لم يتناول ملف أوكرانيا كله سوى بشكل عابر ـ دقيقة أو دقيقين ـ خصص أغلبه للترحيب بسفير أوكرانيا الذي كان حاضراً. وبالتالي فإن التقدير ـ على الأرجح ، أنصب على محاولة تعزيز شعبية الرئيس بغض النظر عن العوائد السياسية المتوقعة في حال توزيع الاهتمامات والأولويات على قضايا الداخل والخارج، علماً بأن جزءاً لا يستهان به من تفسير تجاهل الحديث عن مساعدات جديدة لأوكرانيا يكمن في رغبة بايدن في عدم طرح ملفات خلافية كثيرة من الجمهوريين، والاكتفاء بملف داخلي هو الأكثر تأثيراً على إتجاهات الرأي العام الأمريكي، وهو ملف الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي.
اللافت أن كل هذا الإهتمام بالشأن الداخلي يتنافر تماماً مع شعار بايدن الإستهلالي الذي بدأ به ولايته الرئاسية وهو "أمريكا عائدة"، فالرجل لم يتطرق إلى أي إنجاز أو حتى مجرد تحرك باتجاه تنفيذ شعاره بل مال إلى شعار ترامب الأثير "أمريكا أولاً" ولغته الشعبوية بشكل واضح!.
بلاشك أن مصلحة بايدن السياسية ربما تكمن في اللعب على إنقسام الحزب الجمهوري، والسعي للتقارب مع الجناح المؤيد لرأب الخلافات بين الحزبين الرئيسيين في البلاد، وهو مايحاول فعله مع رئيس مجلس النواب الجديد الجمهوري كيفن مكارثي، الذي وصل بعد عناء انتخابي (انتخب بعد 15 جولة اقتراع للمجلس) إلى منصبه خلفاً للديمقراطية نانسي بيلوسي، وهذا التكتيك يستهدف الحد من تأثير الجناح المؤيد للرئيس السابق دونالد ترامب، فضلاً عن إستقطاب بعض الأصوات الجمهورية في معركة الدين الحكومي، حيث يتعين على الكونجرس التصويت من أجل رفع سقف الدين، حيث يترقب الجمهوريون المحافظون دخول معركة جديدة مع الديمقراطيين بشان هذا الملف، رغم أن هناك تيار داخل الجمهوريين يتحفظ على فكرة الوصول إلى مرحلة إغلاق حكومي جديد.
اللافت أيضاً في هذا الخطاب أن بايدن قد تعامل معه باعتباره خطاب إعلان للترشح لإنتخابات الرئاسة المقبلة، والأمر هنا لم يقتصر على إستعراض الانجازات التي حققها الرئيس ولاسيما على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، ولكن لأن بايدن ركز على عبارة ظل يرددها بشكل لافت وهي "دعونا نكمل مابدأنا نحققه" حيث وردت هذه العبارة أكثر من 10 مرات في الخطاب، عاكسة رغبة قوية في البقاء بالبيت للأبيض لولاية رئاسية ثانية، وربما كان لذلك علاقة وثيقة بتجاهل قضايا السياسة الخارجية التي لا تحظى عادة باهتمام الشعب الأمريكي، وليتحول خطاب حالة الإتحاد إلى خطاب للحالة الداخلية للاتحاد.
حماس بايدن واستعادة لياقته الذهنية في خطاب حالة الإتحاد ستكون جرس إنذار للجمهوريين لاستنفار قواهم والسعي للبحث عن مخرج من حالة الإنقسام للوقوف في وجه سعي بايدن للفوز بولاية رئاسة ثانية ما يعني أننا بانتظار معارك حزبية جديدة داخل مجلس النواب على الأقل خلال الفترة المتبقية من ولاية الرئيس الأمريكي الحالي.