في وقت كان الرئيس الأمريكي جو بايدن يستشعر فيه الثقة، ربما للمرة الأولى منذ توليه منصبه، حيث يتراجع معدل التضخم وترتفع مؤشرات التوظيف، فضلاً عن إنجازات داخلية أخرى مثل قانون البنى التحتية وتمرير أكبر حزمة من التدابير المناخية في تاريخ الولايات المتحدة، وإصلاحات مهمة في مجال الرعاية الصحية وملفات أخرى مثل قروض الطلاب الأمريكيين وغير ذلك، إلى جانب بعض النجاحات على صعيد السياسة الخارجية، لاسيما فيما يتعلق بإدارة حرب أوكرانيا، وسط هذه الظروف التي دفعت الرئيس بايدن للتفكير في إعلان ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة في غضون الشهرين المقبلين، جاءت قضية الوثائق السرية القديمة التي تم اكتشافها في منزله لتفرض تحدياً جديداً بالغ الصعوبة على الرئيس الأمريكي.
هذه الوثائق أو المستندات القديمة، التي تعود للفترة التي كان فيها بايدن نائباً للرئيس الأسبق باراك أوباما، والتي وجدت بمقر إقامة الرئيس الحالي بولاية ديلاوير، تمثل تحدياً سياسياً صعباً للأخير، حيث يتعين عليه مواجهة تحقيقات قانونية ربما تدوم أسابيع أو أشهر، فضلاً عن حملات إعلامية سيشنها خصومه الجمهوريين، ما يضعه في موقف دفاعي لفترة سيسعى الجمهوريين حتماً لإطالتها للضغط على الرئيس للتراجع عن الترشح، أو حتى تأجيل هذا الإعلان وإحاطته بقدر عال من الشبهات التي يمكن توظيفها لاحقاً في الأشواط الأخيرة للسباق الانتخابي.
بعد فترة وجيزة من تراجع الأثر السيىء للإنسحاب الأمريكي من أفغانستان، ونجاح إدارة بايدن في إستعادة قدر من مصداقية الولايات المتحدة بين حلفائها الأطلسيين، بمواصلة دعم أوكرانيا عسكرياً ومادياً في حربها ضد روسيا، وتحقيق تقدم نسبي على صعيد إستعادة المكانة الأمريكية في قيادة ما يعرف بالعالم الحر على أقل التقديرات، تمثل قضية الوثائق السرية إخفاقاً معقداً للرئيس بايدن، الذي يجد نفسه جنباً إلى جنب مع الرئيس السابق ترامب، حيث يواجهان إتهامات مشابهة مع إختلاف التفاصيل، والأمر هنا لا يقتصر على أثر الإتهام من الناحية القانونية، ولكنه يتعلق بالتوظيف الإعلامي والسياسي للقضية، حيث تسبب وضع بايدن في قضية مشابهة لقضية ترامب في إزاحة فرص الديمقراطيين في الإنقضاض على خصمهم السياسي العنيد، الذي اعلن ترشحه لإنتخابات الرئاسة المقبلة، ولا يزال المرشح الوحيد للجمهوريين حتى الآن.
لاشك أن الأثر الإيجابي المتوقع لتزايد شعبية بايدن نسبياً على خلفية بعض الإنجازات الداخلية قد بات موضع شك بسبب الحملات الإعلامية المتوقعة التي سيشنها منتقديه على خلفية قضية الوثائق السرية، التي كان هو نفسه يبدي فيها آراء صارمة للغاية فيما يتعلق بموقف ترامب، حيث شدد على أن لمثل هذه الوثائق "قدسية" ينبغي إحترامها، وبالتالي فإن وقوعه في الخطأ ذاته، ربما سيكون أشد أثراً مقارنة بترامب، الذي اعتاد الجمهور منه تجاوزات عديدة ومألوفة، وذلك على خلاف بايدن الذي يروج لنفسه صورة ترتبط بالإلتزام المؤسسي والحزبي والعقلانية والرشادة السياسية.
المؤكد في ذلك كله أن الجمهوريين سيحاولون تحقيق اقصى عائد سياسي ممكن من قضية الوثائق السرية الخاصة ببايدن حتى لو انعكس ذلك سلباً على وضعية ترامب السياسية، أخذاً بالإعتبار عدم وجود توافق جمهوري كامل على دعم ترشح الأخير للإنتخابات الرئاسية المقبلة، وبالتالي يتوقع تواصل التحقيقات مع بايدن والتركيز عليها جمهورياً خلال الفترة المقبلة، ناهيك عن حرمان الديمقراطيين من أحد أهم أسلحتهم في النيل من ترامب لأن الأمر يتعلق بقضية مماثلة لقضية يعاني منها مرشحهم المحتمل للإنتخابات الرئاسية المقبلة جو بايدن.
أحد أهم التأثيرات السلبية لقضية الوثائق السرية على الرئيس بايدن أنها قد تغذي معارضة شريحة ليست قليلة من الديمقراطيين لإعادة ترشحه للرئاسة المقبلة، حيث تضيف سبباً آخر لمعارضتهم القائمة بالأساس على تقدمه بالسن مع بلوغ الثمانين في نوفمبر المقبل، وهو تزايد إحتمالية الهزيمة أمام أي مرشح جمهوري آخر بسبب هذه القضية.
الخلاصة أن قضية الوثائق السرية جاءت في توقيت غير مناسب بالمرة للرئيس جو بايدن، وقد يكون لها تأثير نوعي سواء في سياساته وقراراته لاسيما فيما يتعلق بالترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، والأمر يتوقف على أثرها المرتبط بدوره بكيفية توظيف الجمهوريين لها لإستعادة نفوذهم وشعبيتهم التي تراجعت في نتائج إنتخابات التجديد النصفي للكونجرس بشكل واضح، والتغلب كذلك على الإنقسام الذي يعانيه الحزب الجمهوري خلال السنوات الأخيرة.