يبدو سؤال المليون دولار في المسألة الأوكرانية متمحوراً حول "المحطة" التي يمكن عندها بناء توقعات معتبرة بشأن إمكانية إنتهاء أو إنهاء هذه الحرب، وهنا تبدو الإجابة على السؤال مرهونة إلى حد كبير بحسابات العواصم الغربية في هذه الأزمة، كون هذه الحسابات عامل رئيسي في إستمرار الصراع العسكري أو إنتهاء الحرب. الشواهد تقول أن الدول الغربية قد إستثمرت مليارات الدولارات سواء في الدعم العسكري المباشر لأوكرانيا، أو في المساعدات المالية للإقتصاد الأوكراني، أو في شكل خسائر تحملتها الإقتصادات الغربية، ولا تزال، جراء الحرب من خلال تداعيات إرتفاع أسعار مواد الطاقة، أو كنتيجة مباشرة وغير مباشرة للعقوبات الغربية المفروضة على روسيا.
تحليل التصريحات والمواقف والسياسات التي تقودها الولايات المتحدة يشير إلى أن دول حلف الأطلسي لن تقبل بالتخلي عن الأراضي الأوكرانية التي استولت عليها روسيا خلال الحرب، ولن توافق على أوكرانيا منقوصة السيادة والأراضي، وهو ماعبر عنه مسؤول غربي بالقول بأنه "لايمكن أن ينظر إلى بوتين على أنه نجح في تعديل الحدود السيادية لأوكرانيا بالقوة"، وهذا يعني أن الحد الأدنى للمطالب الغربية سيكون إنسحاب القوات الروسية بشكل كامل إلى حدود ماقبل فبراير 2022، ونقول الحد الأدنى لأن هناك مطالب أخرى أكثر تشدداً تتحدث عن إنسحاب روسي من شبه جزيرة القرم أيضاً، وهذا هو المستحيل بعينه وفقاً لوجهة النظر الروسية، لأن هذا يعني إقراراً بالفشل، وإنتحاراً سياسياً بالنسبة للرئيس بوتين.
الواقع يقول أيضاً أن هذه الحسابات كلها تبدو مرهونة ببقاء الرئيس الأوكراني زيلينسكي في منصبه، بمعنى أن رحيله أو غيابه عن المشهد السياسي ـ لأي سبب ـ قد يفتح الباب أمام حسابات أوكرانية أخرى ربما تتباين مع حسابات الغرب، كما أن إستمرار الحرب وتزايد معاناة الجيش الروسي في أوكرانيا بسبب الدعم العسكري المتزايد لكييف، قد يدفع بوتين لتنفيذ تهديداته بشأن الرد كلياً أو جزئياً، وقد اعترف الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه بأن نظيره الروسي "لا يمزح" عندما يهدد باستخدام أسلحة نووية تكتيكية أو أسلحة بيولوجية أو كيماوية.
المؤكد أن سيناريو حرب أوكرانيا قد دخل منعطفاً حرجاً بسبب عوامل عدة أولها سقوط رهان الرئيس بوتين على سيطرة الجمهوريين على مجلسي الكونجرس الأمريكي وشل قدرة الرئيس بايدن على الحركة ومواصلة دعم أوكرانيا عسكرياً، حيث أسفرت الإنتخابات عن نتائج مخيبة لآمال الجمهوريين الأمريكيين والكرملين على حد سواء، والعامل الثاني أن فصل الشتاء في أوروبا يمضي من دون أن يحقق الأثر المطلوب روسياً، وهو أن يؤدي نقص إمدادات الطاقة الروسية وارتفاع تكلفة المعيشة وتزايد التضخم في الدول الأوروبية إلى تعظيم الضغوط على حكومات هذه الدول لتقديم تنازلات تسهم في إنهاء هذه الحرب، أو على الأقل تجميد المساعدات الأوروبية لأوكرانيا، ولكن ما يحدث أن فرنسا ـ على سبيل المثال تقدم عتاداً عسكرياً نوعياً لأوكرانيا، بل إن ألمانيا التي ظلت مترددة في تزويد أوكرانيا بالسلاح قد وافقت مؤخراً على إرسال مركبات مدرعة للجيش الأوكراني.
خلاصة ماسبق أن رهان الكرملين على تحقيق نصر عسكري في أوكرانيا قد بات بعيد المنال، وأن الحسابات كلها تركز الآن على الإستعداد لخوض حرب طويلة الأمد يسعى الغرب لفرضها على روسيا لإستنزافها إقتصادياً وعسكرياً.
في مقابل ماسبق، فإن تهديد بوتين بالصواريخ فرط الصوتية وتصعيد القصف ضد البنية التحتية الأوكرانية يدفع الغرب إلى المزيد من التشدد في موقفه ضد روسيا، وتقديم المزيد من الدعم لأوكرانيا التي بات الكثيرون في الغرب ينظرون لها باعتبارها حائط صد أمامي ضد التهديدات الروسية المحتملة، وأن هزيمتها في هذه الحرب تعني أيضاً هزيمة لدول حلف الأطلسي الداعمة لها. وفي ظل هذه المؤشرات لا يبدو خيار توسيع نطاق المواجهات العسكرية الدائرة في أوكرانيا مسألة مستبعدة تماماً، سواء في ظل إمكانية حدوث أي خطأ في التقديرات والحسابات، أو في ظل قلق بوتين المتزايد من تكبد هزيمة عسكرية في أوكرانيا، بما قد يدفعه إلى توسيع نطاق الصراع واللجوء إلى سيناريو إنتحاري باعتباره ورقة أخيرة قد تجبر الغرب على البحث عن نهاية لهذه الأزمة.
الجميع يدرك أن الموقف الغربي في حرب أوكرانيا تحدده بوصلة القرار الأمريكي، وهذا يعني أننا أمام عام أو أكثر قليلاً وبعدها تبدأ معركة إنتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2024، وهذا يعني أن مصير حرب أوكرانيا يرتبط إلى حد ما بموقف الرئيس بايدن من خوض السباق الإنتخابي المقبل، بمعنى أن "تحلله" من قيود هذا السباق في حال قرر عدم خوضه، سيطلق يد البيت الأبيض في التعامل مع روسيا بشكل أكثر جرأة وميلاً للمغامرة خلال الفترة المقبلة، والعكس قد يكون صحيحاً، بمعنى أنه لو قرر بايدن الترشح فقد تكون له حسابات مغايرة تتعلق بعدم المجازفة والميل إلى تبريد الأزمة ومحاولة تهيئة الأجواء ولو بانجازات شكلية يمكن تسويقها للناخب الأمريكي باعتبارها إنتصاراً سياسياً في عهده على روسيا، ولاسيما أن بايدن قد أخفق في التعامل مع غالبية ملفات وقضايا السياسة الخارجية طيلة فترة رئاسته.