لا بد لأي مراقب لما يجري عالميا أن يشعر بالقلق جراء ما يحدث في مناطق عدة من العالم، فهناك أزمات تتجه إلى المزيد من التعقيد والتشابك بعد أن اختلطت الأوراق وتداخلت المصالح مثلما يحدث في سوريا وليبيا وغيرهما.
هناك أيضا اعتداءات إرهابية تعرضت لها مدينتا نيس الفرنسية وميونيخ الألمانية في الآونة الأخيرة، حيث وقع أكثر من مئة ضحية والعشرات من المصابين جراء هاتين الجريمتين، اللتين تتسمان بقدر كبير من الغموض، لا سيما الاعتداء على المركز الأولمبي في ميونيخ، حيث قام إرهابي يبلغ من العمر 18 عاما فقط، ويحمل الجنسيتين الألمانية والإيرانية بإطلاق النار على المدنيين العزل ثم قام بالانتحار. وقال قائد شرطة ميونيخ، هوبرتوس أندريا، إن المشتبه به لم يكن معروفا لدى الشرطة، وإنه لم يكن له أي صلة معروفة بتنظيمات إرهابية. وقبل هذا الاعتداء بأيام قلائل، كان لاجئا أفغانيا قد هاجم ركاب قطار في ولاية بافاريا مستخدما سكينا، وتبنى تنظيم الدولة الإسلامية الهجوم.
الاعتداءات الإرهابية الأخيرة في مدن عدة منها أورلاندو الأميركية ونيس الفرنسية وميونيخ الألمانية تنطوي على قدر كبير من التعقيد والغموض، فالتقارير تشير إلى أن مرتكبي اعتداء أورلاندو ونيس لهما سجل في العنف الأسري والاكتئاب وشكوك حول هويتهما الجنسية، ما يطرح تساؤلات جدية حول استغلال تنظيمات الإرهاب لمثل هذه الشخصيات في ارتكاب الجرائم الإرهابية.
الملاحظ بالنسبة إلي أن دوائر التحقيق في الجرائم الأخيرة تساهم هي الأخرى في خلط الأوراق، ولا تفرق بين اعتداءات تُرتكب مباشرة بوساطة عناصر إرهابية، وبين استخدام الإرهاب لمجرمين محتملين بسبب ظروفهم الاجتماعية والعائلية. وقد يكون في ذلك هدر للجهود من ناحية البحث في الأسباب ومعالجتها على المستويات كافة. ما أقصده أن الاكتفاء بإلقاء التهمة على الإرهاب من دون بحث في شبكة العلاقات والأسباب ذات الدوافع الاجتماعية والنفسية، ربما يصب في مصلحة تنظيمات الإرهاب بالدرجة الأولى، كونه يشتت الجهود ويتسبب في نشر الخوف والرعب والقلق، محققا بذلك أحد أهم أهداف جماعات الإرهاب وهو توسيع رقعة الترويع والخوف عالميا.
أدرك أن هناك التباسات قانونية واصطلاحية متخصصة في التعامل مع مثل هذه القضايا والجرائم، وأدرك أيضا أن هذا الوضع يفرز آثارا سلبية بالغة الخطورة، منها تعميق ظاهرة “الإسلافوبيا” عالميا، وتكريس العداء للإسلام وربما إثارة صراع غير مطلوب بين الأديان، فضلا عن أنه يصرف الأنظار أيضا عن معالجة الأسباب الأخرى التي تغذي جرائم عنفية مثل انتشار الأسلحة الشخصية بشكل هائل في بعض الدول الغربية، وفشل سياسات الاندماج والصهر الاجتماعي، وغير ذلك من أسباب حقيقية تستحق المعالجة.
لا أشك أن تنظيمات الإرهاب تستغل أي ظروف اجتماعية أو اقتصادية مضطربة لنشر فكرها وجذب العناصر المهيئة لتنفيذ جرائمها، وأحد الحلول المطلوبة هنا لا يعتمد على مكافحة رأس الأفعى، أي تنظيمات الإرهاب، فقط، بل يجب أن يشتمل على معالجة الظروف المجتمعية، التي توفر الظروف لتغلغل فكر الإرهاب داخل بعض المجتمعات.
يجب أيضا التفرقة بين الإرهاب، بمفهومه الاصطلاحي، وبين الجرائم ذات الدوافع الاجتماعية، فقد لاحظت أن هناك مزاوجة بين هذه النوعية من الجريمة وبين الإرهاب، حيث يطلق على العنف الأسري أحيانا في الغرب، على سبيل المثال، مصطلح “الإرهاب الحميم”، وقد تحدثت تقارير إعلامية موثوقة، منها تقرير نشرته مؤخرا شبكة “بي بي سي” تحت عنوان “مُنفذا هجومي أورلاندو ونيس كان لهما تاريخ من العنف الأسري” بتاريخ 23 يوليو الجاري، وأشار إلى أن “كلا المهاجمين اللذين نفذا هجومي أورلاندو ونيس وكذلك الشخص الذي فجر ماراثون بوسطن بأميركا، وعدد من المهاجمين المنفردين البارزين الآخرين جميعهم كانت لديهم سجلات من الإرهاب الحميم قبل فترة طويلة من تنفيذ هجماتهم الأوسع نطاقا”.
أدرك أن هناك احتمالية عالية للربط بين الأشخاص ذوي الخلفيات الاجتماعية السيئة وبين الاعتداءات الإرهابية، ولكن يجب التحقق من هذه الفرضيات كي لا تجد الدول نفسها تمضي وراء مسارات وهمية، أو أنها بذلت جهودا كبيرة في الاتجاه الخاطئ، وتركت الإرهاب الحقيقي يتوغل ويتعمق في داخل مجتمعاتها.
يشير تقرير “بي بي سي” إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي أن تاريخ المتهمين في الاعتداءات الأخيرة مع الاكتئاب والعنف الأسري وهويتهما الجنسية الخفية تتناقض مع النهج الرجولي الصارم لأيديولوجية تنظيم داعش المعادية للمثليين جنسيا، لكنه يشير أيضا إلى أن “هذه الفلسفة بالضبط هي التي ينجذب إليها الأفراد المهمشون والضعفاء”، بمعنى أن التنظيم قد يستغل هؤلاء لارتكاب جرائم وتحقيق أهدافه بشكل براغماتي، كما أن هؤلاء الأفراد قد يستجيبون لمساعي توظيفهم لارتكاب جرائم إرهابية بمعرفة وسطاء التنظيم لأنهم يحاولون إقناع أنفسهم بما هو مخالف لحقيقتهم. هذه التعقيدات والتداخلات التي تجمع بين الأمني والسياسي والنفسي والاجتماعي بحاجة إلى المزيد من الدراسات العلمية المعمقة من أجل تفكيك آليات عمل الإرهاب ولتفادي تفاقم هذا الخطر مستقبلا.
ليس من المنطقي الاستسلام لفكرة تغلب تنظيم بدائي مثل تنظيم داعش على ما يمتلكه العالم من قدرات عسكرية وفكرية وبحثية، كما أنه ليس من المنطقي الاستسلام للأفكار المعلبة أو الجاهزة في تفسير الجرائم المتكررة مؤخرا، فنحن بحاجة إلى دراسات علمية جادة لسبر أغوار الظاهرة الإرهابية وتفكيك تشابكاتها وتعقيداتها للفصل بين ما هو إرهابي لمكافحته بجدية، وبين ما هو أمني اجتماعي لمعالجته بالوسائل المناسبة.
شخصيا لا أستبعد توظيف تنظيم داعش للنظريات النفسية والعلمية الحديثة في تجنيد عناصره، ولكننا بحاجة إلى إثباتات دقيقة كي لا نجد أنفسنا في منتصف الطريق نمضي وراء خيوط دفعنا إليها التنظيم ذاته دفعا لتشتيت الجهود وخلط الأوراق.
ما يهمني أن إثبات توظيف داعش وغيره من تنظيمات الإرهاب لهذه الظروف النفسية والاجتماعية يعني أننا بصدر مصدر خطر داهم، لأننا في مواجهة رافد حيوي غير معروف الحجم والانتشار لتغذية جرائم الإرهاب خلال الفترة المقبلة، ضمن ما يعرف بإستراتيجية “الذئاب المنفردة”، حيث يصعب تعقب العلاقات والاتصالات بين مرتكبي الاعتداءات وعناصر التنظيم.