شهدت السنوات الأخيرة تطورا هائلا في وسائل الإعلام الجديدة، إلى درجة دفعت الكثير من وسائل الإعلام التقليدية العريقة إلى الاختفاء والانزواء في مواجهة السلطة الهائلة لفيسبوك وتويتر وإنستغرام، وغيرها من الوسائل التي بات الحديث عنها باستخفاف مجازفة كبيرة وتجاهلا مخلا لتأثيراتها الاستراتيجية، وليس المجتمعية فقط، بعد أن لعبت هذه الوسائل، ولا تزال، أدوارا كبيرة في المجال السياسي.
منذ سنوات قليلة مضت، كان يقال إن فيسبوك يقود موجات الاضطراب في بعض الدول العربية ويسهم في تأجيج الأوضاع وسقوط بعض الأنظمة الحاكمة، إلى درجة أن البعض وصف ما حدث بـ”ثورات فيسبوك”، وهذا حديث ينتظر التيقن منه عبر دراسات وبحوث علمية جادة للتأكد من حدود دور وسائل التواصل الاجتماعي في الحراك والاضطرابات، التي جرت خلال تلك الفترة. لكن ما يبدو مؤكدا الآن، أن وسائل التواصل الاجتماعي قد لعبت دورا حيويا في إنجاح حملة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حيث كان موقع تويتر، هو وسيلة الإعلام والتواصل الأهم بين ترامب ومؤيديه في الشارع الأميركي في ظل تعرضه لما يشبه الحصار والعزلة الإعلامية، التي فرضتها عليه الصحافة وشبكات التلفزيون الأميركية.
المهم أن وسائل التواصل الاجتماعي باتت جزءا لا يتجزأ من العوامل المؤثرة في الحياة اليومية على المستويات كافة، وهذه حقيقة لم تعد تنتظر المزيد من الجدل والنقاش.
ومع ذلك فإن تطور أدوار هذه الوسائل لا يوازيه تطور مواز في آليات استخدامها من الناحية القانونية، حيث فرض التطور المتسارع في هذه الوسائل على المشرعين البقاء في دائرة رد الفعل أو اللهاث وراءها للملاحقة والتتبع في أحسن الأحوال، وفعلت في الإطار التشريعي كما فعلت في الإعلام التقليدي، الذي حولته من قائد إلى تابع، وانتقل بسهولة وسرعة لافتة إلى مربع الجري وراء ما تنشره وسائل التواصل الاجتماعي، التي باتت صانعة للأحداث وليست مجرد ناقل لها، وموجهة للرأي العام، بل وصانعة له في قضايا وموضوعات لا تستحق حتى مجرد القراءة، ولكن فيسبوك يستطيع تحويلها إلى شاغل أساسي للرأي العام في أي دولة من الدول.
الكارثة في ما يحدث أن التكلفة المجتمعية باهظة للصمت حيال غياب الإطار القانوني المنظم لاستخدام هذه الوسائل، وآخر البراهين الدالة على ذلك، يتمثل مؤخرا عبر تقارير إعلامية غربية تحدثت عن جريمة اغتصاب جماعية جرت في السويد وبثت مباشرة عبر آلية البث المباشر في فيسبوك.
بدأ موقع فيسبوك، منذ العام الماضي، خدمة تواصلية جديدة تسمى “فيسبوك لايف” تتيح بث لقطات بث مباشر لمستخدمي الموقع، وهنا تكمن المفارقة، فلم يعد الجمهور بانتظار البث عبر يوتيوب أو شبكات التلفزيون التقليدية، بل هناك وسيلة إعلامية بالغة التأثير ومن دون تكلفة مادية تتيح للملايين في حالات معينة متابعة مشهد ما!
تلقى خاصية البث المباشر هذه رواجا هائلا بين مستخدمي فيسبوك، بل وباتت وسائل الإعلام التقليدية تستخدمها في نقل الأحداث، وتلجأ إليها مؤسسات إعلامية ضخمة في تغطياتها الإخبارية، ويستخدمها أيضا أناس عاديون بالملايين، وبدأت الجرائم المنفذة عبر هذه الخاصية في تزايد. وتبنت إدارة فيسبوك سياسة للنشر في البث المباشر.
وقالت إنه سيعامل معاملة أي محتوى منشور، ولكن جوهر هذا الشرط يصعب تطبيقه، فالبث المباشر له طبيعة استثنائية، ومن الصعب السيطرة على محتواه، والوعد بذلك مسألة مثيرة للسخرية.
صحيح أن الجرائم ليست وليدة فيسبوك، ولا هي نتاج مباشر له، ولا علاقة له بها على مستوى العلاقة السببية المباشرة، ولكن وجود وسيلة سهلة للترويج والتسويق للجرائم مسألة تستحق وقفة قانونية، كي لا نصحو يوما على لقطات حية للذبح أو الإعدام تنفذها تنظيمات الإرهاب وتثير الذعر والرعب في المجتمعات وبين الشعوب.
وما يجب أن نهتم به فعلا ليس الأطر القانونية والتشريعية للجرائم المستحدثة المرتبطة بوسائل التواصل الاجتماعي، ولكن أيضا كيفية تجنب الآثار السلبية الناجمة عن الاستخدام السيء لهذه الوسائل في حال لم تنطبق شروط الجريمة بمعناها القانوني على المحتوى سواء كان كلاما منشورا، أو لقطات مصورة وبثت بأي طريقة من الطرق.