تصور الجميع أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من دعاة الانعزالية في السياسة الخارجية، لاسيما أنه ظل طيلة الأشهر الماضية يرفع شعار "أمريكا اولاً"، ومن ثم فقد استقر في الوجدان العالمي أن الولايات المتحدة لن تخوض حرباً من أجل ما يعرف في السياسة الدولية بالمبادئ الأخلاقية، ولكن ترامب فاجئ الجميع حين اتخذ قراراً بإطلاق 59 صاروخ "توما هوك" على قاعدة "الشعيرات" الجوية السورية، التي انطلقت منها المقاتلات التي قصفت المدنيين في "خان شيخون" بالغاز السام.
تحول نوعي كبير حدث في اتجاهات السياسة الخارجية الأمريكية في أول اختبار دولي لإدارة ترامب، حيث انغمست بقوة في الملف السوري، وتصرفت عكس ما كان يعلنه الرئيس ترامب بشأن رفض التدخل العسكري الأمريكي في سوريا. تساؤلات عديدة يثيرها موضوع "خان شيخون" منها: لماذا عمد نظام الأسد لاختبار نوايا الرئيس ترامب؟ وهل تم ذلك بإيعاز من روسيا ام من جانب ملالي إيران أم بضوء أخضر من الحليفين معاً؟ وهناك تساؤلات تتعلق بالضربة الصاروخية ذاتها والرسالة بل الرسائل التي تحملها لأطراف عدة على المسرح الإقليمي والدولي.
لا اعتقد أن الضربة الصاروخية الأمريكية ذات أهمية كبيرة من الناحية العسكرية ضوء امتلاك النظام السوري لأكثر من عشرين قاعدة جوية يمكن أن يستخدمها، فضلاً عن أن القاعدة ذاتها قد أعيدت للعمل، ولو بشكل جزئي، في غضون ساعات قلائل، ناهيك عن أن الضربة الصاروخية الأمريكية لم تكن مفاجئة تماماً، فقد تم إبلاغ دول عدة منها روسيا، بل إن التقارير الإعلامية المتوالية قبل الضربة بساعات تحدثت بشكل ضمني عن أن الإدارة الأمريكية تدرس "خيارات عسكرية" عدة، ومنها توجيه ضربة للقاعدة الجوية التي انطلقت منها المقاتلات التي شنت هجوم الغاز ضد المدنيين.
الضربة بحد ذاتها تنطوي على رمزية سياسية واستراتيجية تفوق قيمتها العملياتية والعسكرية البحتة بمراحل، فهي تعكس نمط تفكير الإدارة الأمريكية الجديدة، بل سعت على تكريس هذا النمط لدى منافسي وخصوم الولايات المتحدة على حد سواء، وهو أنه لا قواعد محددة يمكن القياس عليها في التعامل مع إدارة ترامب.
الضربة الصاروخية الأمريكية تمت بشكل محسوب زمنياً ومكانياً واستراتيجياً، ورسالتها الأولى والأهم كان عنوانها الكرملين، الذي أفرط في التفاؤل بشأن توجهات ترامب حيال الدور الروسي في سوريا، ولكن المطلوب كان إيصال رسالة مغايرة من دون المغامرة بفقدان قنوات الاتصال والحوار مع الرئيس بوتين، وقد تم بالفعل ذلك عبر ضربة جوية محسوبة، جاءت خصماً من رصيد راكمه بوتين في الشرق الأوسط على حساب إدارة أوباما، ولكن هذه الضربة قد عدلت التوازنات مرة ثانية، وأكدت أن الولايات المتحدة هي القائد لفعلي للنظام العالمي القائم، وهي من يحدد معايير الصواب والخطأ في تصرفات وسلوكيات الأنظمة والدول.
نددت روسيا بالضربة الامريكية وهذا حقها، ولكنه لم تستطع أن تفعل غير ذلك، وفشلت في اقناع الجميع بأنها "سيدة" الملف السوري، فلم تجد ما تفعله في مواجهة عنفوان ترامب سوى الإعلان عن تعليق اتفاق السلامة الجوية مع القوات الأمريكية، وهو اتفاق يهدف إلى تجنب الحوادث في الأجواء السورية بين طائرات كلا البلدين، كما تعهدت بتعزيز الدفاعات السورية المضادة للطائرات، ومع ذلك فإن قواعد هذا الاتفاق ستظل سارية بحكم الأمر الواقع كونه مرتبط بمصالح الطرفين، الروسي والأمريكي لا بطرف واحد فقط. الولايات المتحدة من جانبها لم تظهر أي مبالاة بالغضب الروسي، بل جاهرت دولياً بأنها مستعدة لفعل المزيد، وأبلغت الكونجرس ومجلس الأمن بذلك، ولكنها عبرت أيضاَ عن أملها في ألا يكون ذلك "ضروريا"، وهذه مسألة تقديرية، لاسيما أن الأمر يتعلق بمصلحة الأمن القومي الأمريكي كما أكدت الإدارة الأمريكية.
الرسالة الثانية للضربة الصاروخية عنوانها إيران، فالإدارة الأمريكية أرادت التأكيد على جديتها وأنها تفعل ما تقول، وأن من الضروري التعامل معها بالجدية اللازمة، وهي رسالة مكملة لرسالة أمريكية سابقة وجهت لطهران وكان مفادها "لا تختبروا نوايا ترامب"، وبهذه الضربة أكد على ما يريد إبلاغه لإيران، وهي رسالة ليست هينة، بل تتعلق بممارسات إيران وسلوكياتها في المنطقة إجمالاً، فالرسالة سيتلقفها الحرس الثوري الإيراني الذي لا يكف عن مضايقة القطع البحرية العسكرية الأمريكية في الخليج العربي، بشكل كاد ان يتسبب في اشتباكات عسكرية مرات عدة.
وقد شهدت الأعوام القليلة الماضية سلسلة حوادث من هذا النوع منها ما حدث في ابريل 2015، حيث اعترضت قوارب الحرس الثوري سفينة تجارية أمريكية، وفي العام ذاته أطلق الجانب الإيراني صاروخين خلال مناورة ذخيرة حية في مضيق هرمز نجت منهما المدمرة الأمريكية "هاري ترومان" بأعجوبة، وهي استفزازات متكررة وغير متوقعة من الحرس الثوري، وكانت تراهن بشكل أساسي على نهج إدارة أوباما في معالجة الخلاف مع إيران عبر المفاوضات، ولكن الآن بات يتعين على طهران إجراء حساب دقيق لأي خطوة من هذا النوع، فإدارة ترامب لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي استفزاز إيراني للوجود البحري الأمريكي في الخليج العربي تحديداً، والمؤكد أن صانع القرار في إيران قد وصلته رسالة ترامب واستوعبها جيداً.
وإذا كنا نتحدث عن رسالة لإيران فهي موجهة بنفس القدر لوكلائها في المنطقة، وأبرزهم "حزب الله" اللبناني" الذي يمكن أن تدك الصواريخ الأمريكية مقراته في دقائق في حال شعرت إدارة ترامب أنه يمثل تهديد آني لأمن إسرائيل واستقرارها. ثمة رسالة مهمة أخرى بعثتها الضربة الصاروخية إلى بيونج يانج، فقبل الضربة بساعات كان الرئيس ترامب يختلف مع مستشاريه ومساعديه حول التعامل مع التهديد الكوري الشمالي، حيث أصر على أن بإمكان الولايات المتحدة التصدي لهذه التهديد بمساعدة الصين أو من دونها، بل حركت الولايات المتحدة بالفعل قطع بحرية بحرية قتالية باتجاه شبه الجزيرة الكورية وطلبت قيادة القوات الأمريكية في المحيط الهادئ من تلك القطع التابعة للأسطول الثالث الابقاء على جاهزيتها، وتواجدها في المنطقة الغربية من المحيط الهادئ. الرسالة الأهم في ذلك كله هو إعادة بناء قوة الردع الأمريكية، واستعادة هيبة القوة العظمى المهيمنة على مفاصل النظام العالمي، وتأكيد الالتزام حيال أمن حلفاء وشركاء الولايات المتحدة الاستراتيجيين مثل اليابان وكوريا الجنوبية.