بين فترة وأخرى نكتشف بالدليل القاطع والبرهان الساطع أن التعليم والامتحانات ليست هي المؤشر الأوحد على النبوغ العلمي والتفوق العقلي!!
بالأمس كان موعدنا مع برهان جديد، فالشاب البريطاني اركوسهتشينز، البالغ من العمر 22 عاماً، الذي استطاع وقف أكبر هجوم إلكتروني عرفته البشرية حتى الآن، وهو فيروس "الفدية"الذي ضرب الحواسيب في نحو 150 دولة ليس سوى أحد الراسبين في اختبارات شهادة الثانوية العامة، وفي المواد المتعلقة بتكنولوجيا المعلومات تحديداً!
نجح هتشينز في وقف هجوم فيروس الفدية الخبيث، وسردت التقارير الصحفية جوانب من حياته، مشيرة إلى أنه عوقب بالإيقاف عن الدراسة بعد اتهامه بقرصنة النظام الالكتروني الخاص بمدرسته!! ولم تكتف المدرسة بحرمانه من الدراسة لمدة أسبوع بل منعته من استخدام أجهزة كمبيوتر متصلة بالإنترنت وهو ما اضطره لدراسة منهج تكنولوجيا المعلومات الخاص بالشهادة الثانوية على الورق فقط.وذكر هتشينز أنه فشل في اجتياز اختبار نظم المعلومات بسبب ذلك.
هذا "الفاشل"السابق من وجهة نظر النظام التعليمي الرسمي في بلاده، عمل الأيام الأخيرة عن كثب مع مركز الأمن السيبراني الوطني التابع للحكومة البريطانية لمنع ظهور أي نسخ جديدة من الفيروس الخبيث الذي استخدم في شن الهجوم، وانهالت عليه عروض الوظائف المغرية!
ما يهمني في هذه القصة أن النظم التعليمية الرسمية ليست وحدها المعيار لقياس قدرات الشباب في العصر الحديث، فهناك "مهارات"يصعب قياسها عبر طرق التدريس والاختبار القائمة أياً كان مستوى تطورها وتقدمها.
وقصة هذا الشاب البريطاني متكررة، وهي قريبة من قصص آخرين مثل بيل جيتس الذي ترك جامعة هارفارد قبل إكمال دراسته، وأسس بعدها شركة "ميكروسوفت"العملاقة، وأصبح أغنى رجل في العالم، بل إن إحدى الإحصاءات المنشورة تقول إن نسبة كبيرة من أغنياء العالم لم يدخلوا الجامعة أو تركوها قبل الحصول على شهادة جامعية، ونسبة كبيرة من الطلاب الجامعيين في الولايات المتحدة يتركون الدراسة قبل إكمالها، ثم يحققون نجاحات كبيرة في مجالات العمل!!
وقد نشرت صحيفة "الشرق الأوسط"في عددها الصادر في 12 أكتوبر 2007 قصة ترك بيل جيتس للجامعة حيث نقلت عن جانيت لو مؤلفة كتاب "بيل جيتس يتحدث"قوله عن ترك الجامعة "كنت في داخلية كاريار في جامعة هارفارد عندما رفعت سماعة التليفون لاتصل بشركة في ولاية نيومكسيكو، كنت ارسلت اليها اقتراحات لإضافة نظام «بيزيك» لأبحاثها في مجال «دوس». كان ذلك في يناير (كانون الثاني) سنة 1975. وكانت الشركة تعمل لاختراع اول «بي سي» (كمبيوتر شخصي).عندما ارسلت لهم الاقتراح، بالبريد المسجل، لم اكتب عنوان داخليتي، ولم اقل لهم إنني طالب، حتى لا يقللوا من اهمية اقتراحي. وعندما رفع رجل سماعة التليفون في الجانب الآخر، في نيومكسيكو، حاولت ان أضخم صوتي واتكلم كأنني استاذ في الجامعة. خفت ان يكشف حيلتي ويقفل خط التليفون. لكنه لم يفعل. وطلب مني ان انتظر دقيقة. وبحث في اوراقه، وقال ان اقتراحي وصلهم، ويريدون تفاصيل. كانت تلك اللحظة. سيردون بان يوافقوا على التفاصيل. ونسيت كل شيء له صلة بالجامعة، وقضيت اياما وليالي اكتب التفاصيل. وعندما قبلوها، قلت لنفسي: لا مكان لي بعد اليوم هنا".
وعاد بيل جيتس للجامعة، الذي وصفته صحيفة الجامعة بعدها بأنه "أشهر فاشل في تاريخ هارفارد"، ليتسلم شهادة "دكتوراه شرفية"، وقال عن تجربته "ربما لو لم اترك الجامعة، كنت سأعرف اشياء لم اعرفها الا قبل سنوات قليلة. لم اعرف كثيرا عن عدم المساواة والظلم. ولم اعرف ان الحضارة ليست فقط عن الاكتشافات والتطور، ولكنها، ايضا، عن الانسانية ورفع الظلم. عن الحرية، والتعليم، والصحة، وفرص العمل لمن لا يملكها".
اللافت أن جيتس لم يكتفى بترك الجامعة بمفرده بل حرص صديقة ستيف بولمر على تركها أيضاً، ثم مالبث أن أصبح الصديق مديراً لشركة "ميكروسوفت"وضمن قائمة أغنى اغنياء العالم!
هذه القائمة تضم أيضاً ألكسندربيل، مخترع الهاتف، الذي انقطع عن دراسته، بعد سقوطه في كثير من المواد، حيث كان يرى أن التركيز يتم على المواد الأدبية التي لا يهواها!!
هناك أيضا الشاب الأشهر حالياً في عالم تكنولوجيا المعلومات، مارك زوكربيرغأصغرهم. مؤسس موقع "فيسبوك"، وهناك أيضاً لورنس أليسون، مؤسس شركة "اوراكل"للكمبيوتر، وستيف جوبز، مؤسس شركة "أبل"للكمبيوتر، الذي ترك الجامعة قبل أن يكملها.
هذه ليست دعوة لترك التعليم، أو التقليل من أهميته العظيمة في سباق التنافس بين الأمم والدول، ولكنها تأكيد على أهمية المهارات والمواهب والقدرات الشخصية في النجاح. والفكرة في معظم هذه القصص الرائعة، هي ريادة الأعمال، أو الابتكار، الذي يمثل قيمة حيوية يجب غرسها لدى الشباب، بجانب امتلاك صفات المثارة والصبر والطموح والإصرار.
وعلينا، كدول ومجتمعات، أن نتعامل مع المواهب والمهارات الفردية والطموح الشخصي، باعتباره كنزاً حقيقياً، فالشباب طاقة لا يستهان بها، وعلينا أن نمتلك ونطور الآليات القادرة على انتقاء المواهب وكشف المهارات ورعايتها وتشجيعها في مختلف المجالات.