من بين أكثر التصريحات والمواقف السياسية اللافتة في الأيام الأخيرة، ما قالته رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي من أن بلادها "ستحتفل بفخر بالذكرى المئوية لصدور وعد بلفور"، الذي وضع قاعدة لتأسيس دولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية. وقالت ماي، أثناء الرد على الأسئلة خلال جلسة لمجلس العموم البريطاني، "إننا نشعر بالفخر من الدور الذي لعبناه في إقامة دولة إسرائيل، ونحن بالتأكيد سنحتفل بهذه الذكرى المئوية بفخر".
حاولت ماي التحفيف من حدة موقفها بالإشارة عرضاً إلى موقف الفلسطينيين، التي لا تزال تثير الاستياء في العالمين العربي والإسلامي، قائلة "علينا أيضا فهم الشعور الموجود لدى بعض الناس بسبب وعد بلفور، ونعترف أن هناك مزيدا من العمل يجب القيام به".
تابعت رئيسة الوزراء البريطانية في أعقاب هذا التصريح المثير للجدل حديثها عن دعم حل الدولتين كوسيلة لتسوية الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وأن ذلك يمثل "هدفاً مهماً" للسياسة الخارجية البريطانية.
شددت ماي أيضاً على عزم بريطانيا الاحتفال بمئوية "وعد بلفور" الصادر في الثاني من نوفمبر عام 1917، واعتبرت أن "هذه الرسالة واحد من الأهم في التاريخ"، وأنها "تظهر الدور الحيوي، الذي قامت به بريطانيا في إقامة وطن للشعب اليهودي، وسنحتفل بهذه الذكرى المئوية بفخر".
ما ذكرته رئيسة الوزراء البريطانية لا يخرج عن سياق السياسات البريطانية، ولكن الفلسطينيون يرون أن بريطانيا يفترض أن تعتذر عن إصدار هذه الوثيقة، وفي كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، يوم 20 سبتمبر الماضي، طالب الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، السلطات البريطانية الحالية بتقديم اعتذار عن إصدار "وعد بلفور"، ومنح تعويضات للفلسطينيين على احتلال أراضيهم، الذي مهدت رسالة الوزير البريطاني بلفور الطريق له.
هذا الوعد التاريخي الذي يوصف بأنه عطاء من لا يملك لمن لا يستحق، لا يزال يمثل جوهر الصراع والأزمات في منطقة الشرق الأوسط، فوزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور قد فتح باب الأزمات على مصراعيه في هذه المنطقة حين بعث برسالته إلى اللورد روتشيلد أحد زعماء الحركة الصهيونية في تلك الفترة، معلناً دعمه لاقامة دولة لليهود على أرض فلسطين.
الاحتفال بمئوية هذه الوثيقة المشؤومة هو بالتأكيد بمنزلة إحياء لجدل عميق حول دور بريطانيا في إقامة إسرائيل، وما ترتب على ذلك من معاناة لا تزال مستمرة لملايين الفلسطينيين، فضلاً عن الحروب والصراعات التي راح ضحيتها مئات الآلاف بسبب الاحتلال الإسرائيلي.
الانحياز البريطاني لإسرائيل ليس طارئاً ولا عابراً بالنسبة لمراقبي السياسة الدولية، ولكن الاحتفاء بوثيقة تؤسس للاحتلال هو تجاهل لكل القرارات الدولية التي تنطلق من عدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
من الصعب المطالبة باعتذار بريطانيا عن "وعد بلفور" لأسباب واعتبارات عديدة، منها صعوبة الاعتراف بخطأ بريطانيا الاستراتيجي في هذه الأزمة، انطلاقاً من التبعات الجسيمة لمثل هذ الاعتراف، فالاعتراف يترتب عليه مسؤوليات تاريخية ومعنوية وسياسية وقانونية، فضلاً عن صعوبة المجازفة بإغضاب إسرائيل من الأساس!
رغم أن القضية برمتها هي قضية مركزية بالنسبة لنا كعرب ومسلمين وتمس شعورنا جميعاً، ولكن علينا أيضاً ونحن ننظر لهذه الأمور أن نتعامل معها بحسابات السياسة وليس بحسابات العاطفة، ولذا من الصعب توقع تراجع بريطانيا، أو اعتذارها، أو حتى التعبير عن شعورها بالذنب عن هذه الكارثة التاريخية التي حاقت بالشعب الفلسطيني.
لست بصدد تبرير السياسة البريطانية، ولكني اتعامل مع منطقها، حتى لو كان مرفوضاً، حيث ينبغي علينا فهم مثل هذه الأمور والتعاطي معها بما يسهم في إيجاد حلول للأزمة وليس فقط الاكتفاء بطرح بدائل ندرك مسبقاً أنها لن تتحقق.
مئوية وعد بلفور هي مئوية مأساة فلسطين، ومعاناة وتشريد ملايين الفلسطينيين، وبريطانيا والعالم أجمع يتحمل مسؤولية عجزه عن إيجاد الحلول اللازمة لهذه المأساة، ويجب أن تكون هناك جهود أكثر جدية لتسوية هذا الصراع، الذي طال أمده ويزداد تعقيداً بمرور السنوات.