تشير تجارب دول متقدمة عدة على أهمية استقطاب العناصر البشرية الكفؤة باعتبارها وقود التقدم والتطور التقني والعلمي في المجتمعات كافة، وقد حدث هذا في مختلف مراحل التطور في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ودول أوروبية عدة تعتمد على استقطاب أصحاب المهارات والعلماء من دول العالم كافة.
اللافت أن دولة صاعدة لا تعاني ندرة بشرية تمضي في هذا الاتجاه لتعزيز وتيرة تقدمها وتطورها في مجال العلوم والتكنولوجيا، حيث أعلنت الصين مؤخرًا عن إصدار تأشيرات دخول طويلة الأجل في محاولة لجذب الموهوبين وأصحاب المهارات في تخصصاتهم للعمل في أراضيها، وهذه التأشيرات الجديدة تسمح بالبقاء والعمل في الصين لمدد تتراوح بين خمس وعشر سنوات!
حددت السلطات الصينية الفئات المستحقة لهذه التأشيرات مثل رواد التكنولوجيا، ورواد الأعمال، والعلماء بين الفئات التي يحق لها التقدم للحصول على الفئة الجديدة من التأشيرات، وأكدت أن استقدام خبراء ومهارات من الخارج سيسهم كثيرًا في تحقيق الأهداف الطموحة التي وضعتها الحكومة الصينية للتنمية والاقتصادية في العقود والسنوات المقبلة.
لم يتهم أحد الحكومة الصينية بالفشل عندما تستقطب خبراء أجانب، وهي التي تقود شعبًا يبلغ تعداده أكثر من مليار ونصف المليار نسمة، ولكنها تنظر أيضًا إلى عوامل تفوق القطب الأوحد المهيمن على العالم، وهي الولايات المتحدة، التي فاز علمائها بأكثر من 330 جائزة من جوائز "نوبل"في الطب والعلوم والاقتصاد والآداب، وثلث هؤلاء العباقرة ولدوا خارج الولايات المتحدة، والبقية يمثلون الجيل الثاني أو الأول لمهاجرين أيضًا للولايات المتحدة.
الاحصائيات تقول إن نحو 25% من العلماء في الولايات المتحدة ولدوا خارجها، وأن أكثر من نصف هؤلاء قدموا من الصين والهند تحديدًا! وبالتالي من العبث الحديث عن اكتفاء ذاتي في العلم والعلماء فالتنوع العرقي هو أساس التجربة الرائدة للولايات المتحدة تحديدًا في مجال العلوم والتكنولوجيا.
الصين تضفي على الدرس الأمريكي بصماتها، فقد قامت بتحديد ما تحتاجه من خبرات أجنبية في مختلف مجالات التنمية، وكيفية تحقيق ما وضعته من أهداف، وتوصلت إلى أنها بحاجة إلى نحو 50 ألفا من الخبراء في مجالات مختلفة، ومن ثم قررت فتح الباب أمام استقدام هؤلاء الخبراء عبر تسهيلات جديدة في نظام التأشيرات، بل ووفرت فرصة الحصول عليها عبر الإنترنت وبسرعة قياسية كما أكدت البيانات الحكومية المنشورة في وسائل الإعلام!
من الواضح أن الصين تستعد لاعتلاء عرش التنافسية العالمية خلال العقود المقبلة، وتدرك شراسة المنافسة مع الولايات المتحدة وقوى صاعدة أخرى بقوة مثل الهند وروسيا وكوريا الجنوبية واليابان وغيرها، لذا فهي تعتمد على جذب المهارات المهنية والعلمية والرياضية من مختلف أرجاء العالم، ووضعت تصنيفًا دقيقًا لذلك من أجل تعزيز تفوق الصين في مختلف المجالات.
هذا النقاش يستدعي بالتبعية فكرة المواطنة العالمية، التي تشير الاستطلاعات التي تجرى حول العالم إلى زيادتها ونموها بشكل مستمر، فهناك إحساس يتزايد بين الشباب بفكرة المواطنة العالمية، وأنهم مواطنين عالميين وليسوا مواطنين في بلادهم حصرًا، ووفقا لاستطلاع أجرته شبكة "بي بي سي"في عام 2016، فقد زاد الشعور بالمواطنة العالمية في البلاد ذات الاقتصادات الناشئة، إذ يرى سكانها في أنفسهم شخصيات متطلعة ذات عقول عالمية، وشمل استطلاع الرأي أكثر من 20 ألف شخص في 18 دولة، حيث قال 56 في المئة من المشاركين من البلاد ذات الاقتصادات الناشئة إنهم يعتبرون أنفسهم مواطنين عالميين قبل أن يكونوا مواطنين في بلادهم. وبلغت نسبة من يرون أنفسهم مواطنين عالميين في نيجيريا 73 في المئة، وفي الصين 71 في المئة، وفي بيرو 70 في المئة، وفي الهند 67 في المئة.
هذه النتائج تسير بشكل عكسي في الدول الصناعية المتقدمة مثل ألمانيا، حيث أظهر الاستطلاع انخفاض الاحساس بمبدأ المواطن العالمية، ففي ألمانيا، على سبيل المثال، يرى 30 في المئة فقط من المشاركين أنهم مواطنون عالميون. قد يبدو الأمر مرتبطًا بإشكاليات الهوية والتنمية والتطور الاجتماعي والاقتصادي في مختلف الدول، ولكن يظل الصراع على المهارات والعقول والموارد البشرية المتميزة أحد أهم سمات التنافسية في القرن الحادي والعشرين.