لم يكن ما وصفه المراقبون الغربيون بـ"حرب تجارية"أمريكية تشنها إدارة الرئيس ترامب على حلفائها، عقب فرض رسوم على الحديد ومنتجات الالمنيوم والسيارات بنسب تتراوح بين 15 ـ25%، سوى أحد مظاهر الضغط التي يقع تحتها الاتحاد الأوروبي في هذه الآونة، ولم يتبلور ـ حتى الآن ـ رد أوروبي على القرار الأمريكي سوى بتقديم شكوى لمنظمة التجارة العالمية، والكشف عن قائمة سلع أمريكي يعتزم الاتحاد الأوروبي فرض ضرائب عليها رداً على القرار الأمريكي.
تمسك الرئيس الأمريكي بنهجها القائم على أن "أمريكا أولاً" يفضي إلى شروخ عميقة قد يصعب ترميمها في العلاقات مع الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، ولكن توقيت القرار دفع بعض المحللين إلى اعتباره بمنزلة ضغط قوي على دول الاتحاد الأوروبي رداً على موقف الثلاثي الأوروبي (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) في التعاطي مع موضوع الاتفاق النووي الخاص بإيران.
ترامب يؤمن بأنه لا تحالفات مستمرة بغض النظر عن تباين المصالح، ومن ثم فمن اللافت أن يأتي هذا القرار العقابي الصارم بفترة وجيزة عقب انخراط الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وتعاونهم في توجيه ضربة عسكرية إلى نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
ثمة إشارات عدة تقلق أوروبا من انهيار التحالف التاريخي مع الولايات المتحدة، لدرجة أن العديد من القادة الأوروبيين باتوا يتحدثون عن نهاية وشيكة لهذا التحالف، وأن إدارة ترامب تتحلى عملياً عن أوروبا رغم تصريحاتها المعلنة عكس هذا الاتجاه.
هذه المخاوف انعكست في مخرجات مؤتمر ميونيخ للأمن الذي عقد مؤخراً، بحضور قادة وزعماء من دول العالم المختلفة، حيث طالب التقرير السنوي الصادر عن المؤتمر بضرورة اقامة نظام أمن أوروبي مستقل تماماً عن الولايات المتحدة الأمريكية. كما برزت المخاوف الأوروبية من الانكشاف الاستراتيجي في مداخلات بعض المسؤولين الأوربيين، الذي حذرواً إدارة الرئيس ترامب من خفض مشاركة الولايات المتحدة في حلف الناتو، واعتبروا أن هذه الخطوة يمكن أن تؤدي إلى كارثة وتصبح "أكبر هدية" للرئيس فلاديمير بوتين، والكل يعلم أن الرئيس ترامب لا يكن ارتياحاً لحلف الناتو وكان يصرح أثناء حملته الانتخابيه بأنه "حلف عفا عليه الزمن"، كما أحرج قادته منذ نحو عام، وتحديداً في مايو الماضي، أثناء الاحتفال بافتتاح مقر الناتو الجديد في بروكسل،حيث استغل فرص تجمع قادة الناتو، وطالب جميع الشركاء بالوفاء بالتزاماتهم. وقال دونالد ترامب: "هناك ثلاث وعشرون دولة من الدول الثماني والعشرين ما زالوا لا يدفعون ما يجب دفعه وما يُفترض أن يدفعوه من أجل ميزانياتهم الدفاعية. هذا ليس عادلاً بالنسبة إلى الشعب الأميركي الذي يدفع الضرائب (للناتو). لو أنفق جميع أعضاء المنظمة اثنين بالمئة من ناتجهم المحلي الإجمالي في العام الماضي، لكنا حصلنا على مئة وتسعة عشر مليار دولار من أجل دفاعنا المشترك ومن أجل تمويل احتياطيات الناتو"
ومن المعروف أن هذه النسبة غير متفق عليها داخل الحلف، حيث ترفض ألمانيا رفع نسبة مساهمتها في تمويل الحلف، وهناك خمس دول فقط من الدول الأعضاء في حلف الناتو تنفق اثنين بالمئة من ناتجها المحلي الإجمالي في ميزانيات الدفاع (الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وبولندا واليونان وإستونيا) بينما يرى الخبراء إن مسألة الناتج المحلي الإجمالي نسبية، فالناتج الإجمالي يختلف كثيراً في اليونان مثلاً عنه في ألمانيا. ويخشى العديد من الزعماء الأوروبيين، أن يقلص الرئيس دونالد ترامب خلال قمة الناتو القادمة في يوليو، التزام الولايات المتحدة تجاه الحلف أو يطلق إنذارات جديدة حول مشاركة الولايات المتحدة في الدفاع عن أوروبا.
استشعار أوروبا لهذه المخاوف دفعت الرئيس الروسي للسعي للاستفادة من هذه المعطيات حيث عرض على أوروبا توفير تظام حماية روسي لها، وقال إن بلاده ستبذل ما بوسعها لمنع ظهور تهديدات جديدة في العالم، كما أعرب عن استعداد روسيا لمساعدة أوروبا في مجال الأمن، ففي إحدى جلسات المنتدى الاقتصادي الدولي في سان بطرسبورغ، التي شارك فيها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء الياباني شينزو آبي، ونائب رئيس الوزراء الصيني، فان تسيشان، وتعقيبا على تعليق للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بأن "أوروبا تعتمد في أمنها على الولايات المتحدة" قال بوتين لماكرون بعبارات لا تخلو من دلالات ومعان: "إيمانويل يقول إن لدى الولايات المتحدة وأوروبا التزامات ثنائية، وإن أوروبا تابعة للولايات المتحدة في مجال الأمن.. في هذا الخصوص لا تخش شيئا فنحن سنساعدكم، سنضمن الأمن، من جانبنا سنفعل ما بوسعنا كي لا تظهر أي تهديدات جديدة"
ومن المعروف أن الولايات المتحدة، تنشر قوات في مختلف الدول الأوروبية، حيث تستضيف ألمانيا على أراضيها العددي الأكبر من هذه القوات، وكانت الولايات في السابق، بذريعة مواجهة ما يسمى بخطر "التهديد الروسي" لأوروبا، إلى التوسع عسكريا في دول الاتحاد الأوروبي ونشر مزيداً من العتاد والعسكريين لتعزيز حضورها، ولكن الحال تبدل وتغير، حيث تتجه إدارة الرئيس ترامب إلى إجراء عكسي باستغلال ورقة سحب الحماية الأمريكية لأوروبا من أجل انتزاع تنازلات من حلفائها القدامى.
أزمات أوروبا لا تقتصر على الأمن، بل تطال مصير الاتحاد الأوروبي نفسه بعد أن تجددت المخاوف حول مستقبل الاتحاد بسبب الأزمة السياسية في ايطاليا، فقد تسبب فشل الأحزاب الإيطالية الفائزة في الانتخابات الأخيرة في تشكيل الحكومة في أزمة محتدمة، وتوالت التوقعات بشأن انهيار الاتحاد الأوروبي، فهل تستطيع اوروبا معالجة أزماتها وتنجو بحلفها واتحادها أم سيتبدد كل شىء؟!