تابعنا جميعاً في الآونة الأخيرة تفاصيل ما يصفه المراقبون بحرب تجارية تلوح في الأفق بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، حيث اتهمت بكين الرئيس ترامب "بالتغول التجاري" بعد فرض رسوم جمركية قيمتها 34 مليار دولار على البضائع القادمة من الصين إلى بلاده فيما وصف بأنه أكبر تصعيد حتى الآن في الحرب التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم.
ويخشى الجميع من تنفيذ إدارة الرئيس ترامب تهديداته القائلة بفرض ضرائب على مجمل الـ 450 مليار دولار من البضائع المستوردة من الصين إذا "تجرأت" على الرد بفرض رسوم مضادة!
انتقلت مصطلحات الحروب العسكرية إلى ساحات الاقتصاد، فالصين تعهدت بعدم إصدار "الطلقة الأولى" في الحرب التجارية، ولكنها وعدت بالرد على أي تصعيد في هذه الحرب، وشن "هجمة مضادة" لحماية شعبها ومصالحها الأستراتجية، واتهمت الولايات المتحدة بشن "أكبر حرب تجارية في التاريخ الاقتصادي"
التقارير الصحفية نقلت عن "لي كه تشيانغ" رئيس مجلس الدولة الصيني، وهو ثاني أقوى شخصية سياسية في الصين، قوله: "لن يكون هناك منتصر في حرب تجارية، فالصين ستتخذ إجراءات مضادة في مواجهة الخطوات الأحادية" الأمريكية.
الاقتصاد على أي حال ليس بعيد عن السياسة والعسكرية، وقد لا يكون من قبيل المصادفة أن تتزامن تلك الخطوات مع دعوة الصحيفة الناطقة باسم جيش التحرير الشعبي الصيني المؤلف من مليوني مقاتل إلى أن يكون أكثر جاهزية للقتال.
انشغلت الأوساط البحثية في الأسابيع الأخيرة بدراسة الآثار المحتملة المترتبة على الحروب التجارية على الاقتصاد العالم، لاسيما على صعيد العولمة الاقتصادية، التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بباقية نطاقات العولمة الثقافية والاجتماعية وغيرها.
الخبراء يحذرون من ركود اقتصادي شبيه بالذي ضرب الاقتصاد العالمي في ثلاثينيات القرن العشرين جراء الحروب التجارية، بينما يرى آخرون أن انتشار الحروب التجارية واتساع دائرتها يهدد بنشوب حروب عسكرية عالمية وانهيار منظومات الأمن والسلام العالمي التي نشأت بعد حربين عالميتين دفع العالم ثمناً غالياً لهما. فالعولمة قامت أساساً على الاقتصاد والشركات عابرة القارات متعددة الجنسيات، ومن الصعب القطع بإمكانية تفكيك هذه المنظومة من المصالح المعقدة دولياً بالسهولة التي يتخيلها البعض من دون خسائر يدفع كلفتها العالم أجمع.
من بين النقاط التي يجمع عليها الخبراء أن نشوب حرب تجارية بين الصين والولايات المتحدة لا يهدد اقتصاد الدولتين فقط بل يطال اقتصادات دول العالم كافة في ظل التشابكات التي باتت تربط الاقتصادات ببعضها البعض.
لو اعتمدنا المنهج التاريخي في فهم ما يدور من أحداث راهنة على هذا الصعيد، سنتذكر "حربا الأفيون" (الأولى 1839، والثانية 1857) التي نشبت بين الصين والامبراطورية البريطانية وقتذاك، وهما حربين دفعت الصين ثمناً غالياً فيهما واستوعبت دروسهما جيداً، حيث خسرت فيهما الكثير لمصلحة الأطراف الأقوى وقتذاك، ولذا فلن تكون على استعداد لتكرار أخطاء الماضي ودفع فاتورة مماثلة لما حدث في القرن التاسع عشر، وهناك أيضاً الحرب البريطانية الأمريكية، التي نشبت عام 1812، ونسبت على وقع حرب تجارية أيضاً.
الإشكالية أن الرئيس ترامب لا يأبه بخطر الحروب التجارية، وسبق له أن غرد قائلاً "عندما تخسر الولايات المتحدة مليارات الدولارات في التجارة مع كل الدول التي تتعامل معها تقريباً، فإن الحروب التجارية جيدة ومن السهل كسبها"، وهذه القناعة التي تجافي حقائق التاريخ، تجعل من الصعب على شركاء الولايات المتحدة التوصل إلى تفاهمات مع البيت الأبيض.
والحقيقة أن هناك مؤشرات على أن الحروب التجارية ستتوسع في ظل انتشار الحمائية التي تنتشر بشكل مثير للقلق في دول عدة، والنتيجة هي دخول القوة التجارية الكبرى في سلسلة من الإجراءات الحمائية المتبادلة، التي ستقيد التجارة العالمية وتضعف الاقتصادات وتحد من تنافسيتها وتتسبب في موجات كبيرة من ارتفاعات الأسعار وبالتالي ضعف النمو وانحسار فرص العمل وانتشار البطالة، بما قد ينتهي إلى حروب عالمية جديدة.
يجب أن يعترف الجميع بأن أحد ركائز حالة الأمن والاستقرار النسبية في العلاقات الدولية في الوقت الراهن لا تعود فقط إلى انهيار طي صفحة الحرب الباردة، وانتهاء التنافسية القطبية، بل أيضاً إلى فوائد العولمة الاقتصادية وتزايد الاهتمام بالتعاون والمصالح المشتركة، وليس من مصلحة أحد مطلقاً التخلي عن هذه الحالة التي يجني ثمارها العالم أجمع، فالعالم الذي يواجه تهديدات وجودية مثل الإرهاب وغيره لن يستطيع العودة إلى الجزر المنعزلة وانهاء حقبة العولمة.