لا جدال في أن حديث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن علاقات الشراكة الأمنية مع المملكة العربية السعودية، وما يترتب على هذه العلاقات مع «أعباء» مالية من وجهة نظر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يمثل مسألة لا علاقة لها بنظرة البيت الأبيض للمملكة العربية السعودية تحديداً، بل يرتبط هذا الحديث بالأساس برؤية الرئيس ترامب للعلاقات الدولية وآليات معالجة ما يعتبره اختلالات في السياسة الأمريكية تجاه الحلفاء والشركاء الاستراتيجيين، سواء في الأمن أو الاقتصاد أو التجارة.
لنتفق أولاً على أن الرئيس ترامب ينظر للعلاقات الدولية من منظور رقمي تجاري، وهذا حقه فهو من فوضه الشعب الأمريكي لقيادته، ومن ثم فقد شاهدناه ينسحب من اتفاقات دولية تاريخية مثل اتفاق باريس للمناخ، وينسحب كذلك من اتفاقيات دولية وإقليمية في غاية الأهمية ويعيد التفاوض حول بعضها الآخر، بل إن هذه السياسة كانت موضع ترحيب بالغ من شركائه في دول مجلس التعاون حين طالت الانسحاب من الاتفاق النووي الموقع مع إيران عام 2015، ولو أن ترامب يتبنى موقفاً معادياً للمملكة على سبيل المثال لما انسحب من هذه الاتفاق ولكان قد أبقى عليه! ولكنه ينفذ ما يراه في مصلحة الولايات المتحدة ومن ثم فلا يجب أن ننظر - كباحثين على الأقل - بمعيارين إلى سياسات ترامب، بل يجب أن نتعمق في فهم رؤيته الإستراتيجية ونقوم بالرد عليها وتوضيح ما يلتبس عليه تجاه بعض النقاط في علاقات الشراكة الإستراتيجية مع الحلفاء الخليجيين، ضمن حوار تفاعلي بغض النظر عن أسلوب ترامب الخطابي الذي يتسم بقدر عال من الشعبوية التي اكتسب من خلالها شعبيته وجماهيريته رغم الحملات الإعلامية المضادة لسياساته.
علينا أن نتفهم حديث الرئيس ترامب عن علاقات الشراكة مع المملكة العربية السعودية في إطار الاستهلاك المحلي الأمريكي، فهي تصريحات موجهة بالأساس إلى الناخب الأمريكي الذي يستعد للتصويت في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر المقبل. صحيح أن هذه التصريحات أراد بها الرئيس ترامب أن تمثِّل أداة ضغط سياسي على القيادة السعودية، ولكن من قال إن استخدام أي أداة ضغط يمكن أن يضمن تحقيق النتائج؟ فمن حق الولايات المتحدة أن تفاوض بالطريقة التي تراها مناسبة، ومن حق المملكة وكل الشركاء أيضاً توضيح الأمور كما يرونها، وهذا هو ما فعله بعقلانية وحنكة سياسية شديدة ولي العهد السعودي في تصريحاته الأخيرة.
قال صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي عهد المملكة العربية السعودية الشقيقة خلال لقائه مع ممثلي وكالة «بلومبيرغ» الأمريكية الشهيرة مؤخراً: «تربطنا بترامب علاقة عمل مميزة»، مشيراً إلى أن السعودية تشتري الأسلحة من الولايات المتحدة ولا تأخذها بالمجان، وهذه نقطة في غاية الأهمية ويبدو من الضروري توضيحها للرأي العام الأمريكي تحديداً.
تحدث ولي العهد السعودي أيضاً بذكاء سياسي عن نقطة مفصلية تتمثل في أنه خلال فترة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما وطيلة فترة رئاسته التي استغرقت ثمانية أعوام، عملت الولايات المتحدة ضد أغلب أهداف ومصالح المملكة العربية السعودية في منطقة الشرق الأوسط، واستطاعت المملكة خلال هذه الفترة الحفاظ على أمنها واستقرارها ذاتياً رغم عدم توافر الانسجام مع الحليف الأمريكي خلال تلك الفترة، بل إن الولايات المتحدة بكل ما يعتقد الرئيس ترامب أنه قدرات فاعلة قد فشلت خلال عهد الرئيس أوباما في الحفاظ على أمن واستقرار نظام الحكم في دولة حليفة مثل مصر!
نجح ولي العهد السعودي من خلال هذه النقطة في إثارة الشكوك لدى المحللين حول تقديرات الرئيس ترامب التي بالغ فيها كثيراً حين قال إن السعودية تحتاج إلى أسبوعين فقط دون الولايات المتحدة الأمريكية حتى تستطيع مواجهة بعض المخاطر، وهو حديث ينطوي بالتأكيد على كم هائل من المبالغة السياسية التي أشتهر بها الرئيس ترامب في أحاديثه وتغريداته! فكان رد الأمير محمد بأننا نحتاج إلى ألفي عام لتواجه المملكة - ربما - بعض المخاطر!
برزت الحنكة والهدوء والعقلانية السياسية الراشدة أيضاً في قول ولي العهد السعودي إن أي صديق «سيقول أموراً جيدةً وأخرى سيئة، لذلك لا يمكنك أن تحظى بأصدقاء يقولون أمورا جيدة عنك بنسبة 100 في المئة حتى داخل عائلتك. سيكون هناك سوء فهم»، وهذه هي حقيقة الأمور في العلاقات الدولية في مرحلتها الراهنة، إذ ولَّى عهد التطابق التام في المصالح ووجهات النظر، ولم يعد هناك مجال لتحالفات تتماهى بالكامل في أهدافها ومصالحها واستراتيجياتها وتكتيكاتها، وإلا ما رأينا حلفاء الأطلسي يختلفون بعمق وغضب شديد حول تمويل ميزانية الحلف ومساهمات الأعضاء وغير ذلك من قضايا الشراكة التي لم تكن مطروحة للنقاش من الأساس قبل سنوات قليلة مضت.
بدا واضحاً أيضاً خبرة ولي العهد السعودي في الحكم على الأمور وحسن التقدير السياسي، حين شرح الفارق بين حالتي كندا والولايات المتحدة في التعامل مع المملكة، حيث قال «بالنسبة لكندا، فالأمر مختلف تماماً»، مبيناً أن كندا تدخلت في شأن سعودي داخلي، وأن ما فعلته يمثل إعطاء أمر لدولة في شأن داخلي يخصها، أما الرئيس ترامب فقد كان يتحدث لشعبه داخل الولايات المتحدة الأمريكية عن قضية، وبالفعل الأمران مختلفان تماماً، فمن حق أي رئيس أن يتحدث لشعبه عن إدارة العلاقات مع دول أخرى، ورؤيته في ذلك، ولكن التدخل في شؤون الدول الأخرى له مظاهر وممارسات أخرى لا تتماشى مع الأعراف الدولية.