يقف النظام العالمي على أبواب مرحلة جديدة ربما يشهد فيها مرحلة خطيرة من التدهور والانهيار، وتبدو معالم هذه المرحلة ظاهرة وتتنامى بوتيرة متسارعة، وأهم هذه المعالم اخفاق المنظمة الدولية في التوصل إلى حلول وتسويات لجميع القضايا الدولية المزمنة المدرجة على أجندتها منذ سنوات وعقود طويلة مضت.
ثاني هذه المعالم يتمثل في عودة شبح سباقات التسلح النووي بين القوى العظمي، لاسيما بعد إعلان الولايات المتحدة انسحابها من معاهدة الأسلحة النووية المتوسطة المدى الموقعة عام 1987، وهي معاهدة تحظر إنتاج الصواريخ متوسطة المدى التي تطلق من قواعد أرضية بمديات تتراوح بين 500 ـ 5500 كم، ومعنى ذلك دخول العالم في سباق صاروخي ونووي جديد.
الخلاف الأمريكي ـ الروسي حول الصواريخ النووية ليس جديدًا، ففي عام 2014 اتهم الرئيس السابق باراك أوباما روسيا بانتهاك هذه المعاهدة، إثر تقارير ذكرت أن روسيا اختبرت صاروخ "كروز"يطلق من قاعدة أرضية، وكان المقصود هو الصاروخ الروسي SSC-8، الذي يعزز فاعلية القدرات الصاروخية الروسية على توجيه ضربة نووية في وقت ضئيل لدول حلف الأطلسي.
الإشكالية أن القوى النووية عادت إلى الرهان على القدرات النووية كبديل أقل تكلفة في مواجهة التطور المتسارع بالغ التكلفة للقدرات العسكرية التقليدية، وهذه إشكالية بالغة التعقيد وتهدد بنشوب سباق تسلح نووي ستنخرط فيه حتمًا دول أخرى تسعى جاهدة إلى امتلاك سلاح نووي وفي مقدمها إيران.
الأرجح أن الخطوة الأمريكية ليست موجهة ضد روسيا فقط، بل هي بالأساس موجهة ضد الصين، التي عززت تواجدها وقدراتها العسكرية في شرق آسيا، كونها ليست من الدول الملتزمة بتقييد قدراتها الصاروخية متوسطة المدى.
الانسحاب يتماشى مع رغبة الرئيس ترامب في امتلاك هامش مناورة واسع في الضغط على الدول المنافسة، وفي التلويح بورقة القوة العسكرية الأمريكية، حيث يريد امتلاك قدرات عسكرية جديدة تعزز الترسانة العسكرية الأمريكية وقدرتها على ردع الخصوم الاستراتيجيين حاليًا ومستقبلًا، والأهم من ذلك فتح الباب أمام التفاوض على شروط جديدة لاتفاقية تشمل الصين وليس روسيا فقط، باعتبار أن الصين باتت خصمًا أكثر تهديدًا للأمن القومي الأمريكي من روسيا التي كانت تشغل هذا المستوى من التهديد خلال حقبة توقيع هذه الاتفاقية في نهاية سنوات الحرب الباردة، كما يعكس الانسحاب بشكل أو بآخر قلق المؤسسة العسكرية الأمريكية من استمرار روسيا في امتلاك أسلحة ثبت تفوق الكثير منها على نظيراتها الأمريكية، لاسيما في مجال الصواريخ، حيث بات الطلب على منظومة "إس 400" المضادة للصواريخ على سبيل المثال يفوق بمراحل نظيرتها الأمريكية "باتريوت" التي لم تعد تذكر في سياق الحديث عن طلبيات التسلح الجديدة في العالم.
الاستراتيجيون يرون أن الصين لن تتغلب على الهيمنة الأمريكية بقدراتها التسليحية والعسكرية، بل ستكون الغلبة الأساسية عبر ساحات الاقتصاد والتطور التقني، حيث باتت الصين قاطرة العالم في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة، ما جعلها تشبه "المفرخة"لتوليد الثروات، حيث تؤكد التقارير المتخصصة أن الصين باتت الدولة الرائدة التي يقصدها رواد الأعمال لجني الثروات، أي أرض الأحلام الجديدة!
وتيرة التفوق الصيني تمضي بسرعة لافتة، ففي عام 2016، لم يكن هناك سوى 16 مليارديرًا صينيًا، لكن الآن أصبح هناك صيني من بين كل خمسة مليارديرات حول العالم، بحسب تقرير نشرته "بي بي سي"مؤخرًا!
اللافت في ذلك أن أوروبا تتراجع كقوة اقتصادية وصناعية وعسكرية، أي على مختلف المستويات، وربما تشهد انكشافًا استراتيجيًا غير مسبوق في ظل استمرار الولايات المتحدة في تفكيك منظومة حمايتها لشركائها الأطلسيين.
هذه المعطيات في مجملها يجب أن تكون موضع تحليل ودراسة في دولنا الخليجية والعربية، فالعالم يتغير بسرعة، ومجمل نتائج هذه التغيرات ستؤثر في معادلات الأمن الإقليمي والدولي، وسيكون لمنطقتنا بالطبع نصيب كبير من التأثر بحكم أهميتها الجيواستراتيجية، لذا علينا أن ندرس ونحلل الحراك المتسارع في موازين القوى الدولية والتفاعلات المصاحبة له.