بعد نشر مقال سابق لي بعنوان "مكافحة خطاب الكراهية" في موقع "إيلاف"، وما تلاه من ردود أفعال واسعة ومتباينة ومثيرة للاهتمام من جانب قراء المواقع، ازدادت قناعتي بأن عالمنا لا يحتاج ماهو أهم من ترسيخ فكرة التعايش والتسامح ونبذ الكراهية، لأن مفهوم القرية الكونية الصغيرة الذي أشار إليه مارشال ماكلوهان، قد اختزل إلى أحياء بل شوارع ضيقة في قرية كونية مترامية الأطراف نأمل أن تتسع لنحو ثمانية مليارات من البشر، ينتمون إلى أديان ومشارب وأعراق وثقافات وإثنيات مختلفة!
لا مجال للصراع الصفري الحاد في أزقة هذه القرية، لأن أرى التعايش خيارا وحيداً حتمياً للجميع، بل إنني أرى أن العالم في سباق مع الزمن لإدراك النجاة والابتعاد عن هوة الكراهية، فكل هذه الأحقاد الدفينة التي يتيح لها الانترنت أن تطفو على السطح لا تزال تمثل القليل فيما يبدو من الواقع، في ظل الإحصاءات التي تقول إن نحو 55% من سكان العالم لا يتاح لهم حتى الآن الوصول إلى الانترنت، وإن قرابة مليارات نسمة لا يمتلكون هاتفاً محمولاً، فماذا لو التحق كل هؤلاء بركب العولمة في ظل ما يطغى عليه من موجات كراهية؟!
لم يبالغ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش حين قال إن "وحش التعصب قد أدى إلى تسونامي عنيف من الكراهية تشتد قوته في العالم"، بينما قالت رئيسة الجمعية العامة ماريا فرناندا اسبينوزا إن "الأمر لا يتعلق بحرية تعبير بل هي العنصرية"
قناعتي الذاتية أن المسألة لا تتعلق بمنصات التواصل الاجتماعي ولا شبكة الانترنت، ولا يجب أن نعلق المشانق لهذه المنصات، بل يجب أن نوجه لها خطابات شكر وامتنان لأنها كشفت لنا قمة جبل الجليد لهذه الظاهرة المعولمة، فما ينشر عبر منصات التواصل الاجتماعي لن يختفي لو اننا منعنا الوسيلة من نشره، وهذ لا يعني انني أوافق بالتبعية على تداول المحتوى العنصري أو الذي يحض على الكراهية، بل ادعم تماماً أي جهد تشريعي وقانوني للحد من ذلك بالتعاون مع شركات التكنولوجيا، ولكنني أرى هذا الجهد يجب أن يتوازى معه جهد أكبر يتعلق بالعلاج الجذري وتجفيف المنابع واستئصال الجذور والقضاء على منابتها الحقيقية، وعلينا أن نعترف أن معظم أفكار الكراهية والتحريض وموجة الفاشية الفكرية والدينية الجديدة لم تولد عبر الانترنت، وإن كان قد أسهم في انتشارها وترويجها، بسرعة قياسية ومن دون تحمل أي مسؤولية قانونية عن المحتوى كما هو حاصل في معظم دول العالم بدعوى حرية التعبير (!) ولكن يبقى الخطر المزمن والأكبر في منابع الكراهية وجذورها التي ستجد حتماً طريقاً للنفاذ إلى العقول سواء عبر الانترنت أو غيره!
العالم كله يناقش تحديات نشر التسامح في العصر الرقمي، ويتداول سبل معالجة انتشار خطاب الكراهية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا أمر جيد ومفيد من دون، ولكن الأهم والأنجع برأيي هو بناء استراتيجية متعددة الأمدية، أحدها قصير المدى يُعني بمحتوى الكراهية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، على أن يتبلور الجهد العالمي في اتفاقية دولية ملزمة تختص بتجفيف منابع مجتوى الكراهية على المدىين المتوسط والبعيد، بمعنى ضرورة تلازم المسارات بما يناسب خطورة الظاهرة التي تفوق في تأثيراتها انتشار أسلحة الدمار الشامل، لأن الأخيرة تبقى في أغلبها بيد دول، بينما خطاب الكراهية هو سلاح الدمار الشامل الذي تمتلكه تنظيمات متطرفة وجماعات راديكالية معادية لجميع الأديان والحضارات والثقافات، ولا يجب مطلقاً أن نربط الأمر بالدين الإسلامي أو المسيحي او اليهودي، ولا نحصره في الإسلاموفوبيا ولا العداء للسامية ولا أي نظرة او رؤية مبتسرة لهذا المحتوى المدمر.
علينا أن نعترف بأن الكراهية لا تقتصر على العداء الديني، بل تشمل العداء العرقي وتمتد لقائمة طويلة تطال حتى العداء اللغوي والسياسي! فهي أشكال مختلفة للكراهية القائمة على الهوية، للأفراد والجماعات، بما في ذلك الهويات الدينية والعرقية والجنسية، إذ يخطئ من يظن أن العداء محتدم فقط بين الغرب والإسلام، أو لنكن أكثر صراحة ووضوحاً، بين أقليات من اتباع الإسلام والمسيحية، فهناك عداوات لا تقل خطورة بين المسلمين وبعضهم البعض على سبيل المثال وبين الطوائف والمذاهب المسيحية، وهي عداوات لا تقتصر على التفرقة الطائفية، سنة وشيعة على سبيل المثال، بل إن بعضها يشتعل أحياناً بين اتباع مذهب أو طائفة واحدة، جراء ممارسات تنظيمات الإرهاب والتطرف التي وظفت الدين في السياسة وجعلت منه ساحة للخلاف والشقاق، فلا عجب أن نجد الكراهية داخل الطائفة الدينية الواحدة لأسباب سياسية قائمة على رؤى متكلسة وتمترس وراء تفسيرات وتأويلات وتحليل للأحداث والوقائع!
علينا أن نعترف بأن محتوى الكراهية أخطر وأعمق وأكثر انتشاراً مما نعتقد جميعاً، وعلينا أن نقر بأن الصمت ليس خياراً متاحاً، وأن السكوت على مثل هذه الظواهر هو مجازفة بحق الأجيال المقبلة في حياة آمنة سالمة خالية من العنف والكراهية والأحقاد.