لاشك أن العالم أجمع يتابع في هذه الآونة أنباء التوتر العسكري المتصاعد في منطقة الخليج العربي جراء التهديدات الخطيرة التي يطلقها نظام الملالي الايراني بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لاغتيال القائد السابق لفيلق القدس في الحرس الثوري الايراني، الجنرال قاسم سليماني، حيث ارتفع بقوة منسوب التوتر، ولاسيما في ظل توقعات بأن يتخذ الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب قراراً بتوجيه ضربة عسكرية خاطفة للمنشآت النووية الايرانية قبل العشرين من يناير الجاري، حيث يفترض أن يتسلم السلطة في البيت الأبيض الرئيس المنتخب جو بايدن.
الحقيقة أن الملالي يلعبون دوراً رئيسياً في تفاقم التوتر في منطقتنا ليس فقط بسبب الميول الانتحارية والعسكرية التي تطغى على ممارسات هذا النظام، ولكن أيضاً لأنه نظام اعتاد ممارسة سياسة "حافة الهاوية" في إدارة كل الملفات ومعالجة كل الأزمات التي يتعرض لها، وهذه السياسة تمثل كارثة بكل المقاييس على بيئة الأمن الاقليمي وكذلك الأمن والسلم الدوليين، فالملالي يفضلون دوماً إطلاق التهديدات سواء باتجاه دول الجوار واحتمالية استهداف المصالح الأمريكية في هذه الدول، أو باتجاه التلويح بورقة المليشيات الطائفية التي يمولها ويسلحها الملالي في دول عربية عدة، وتلعب أدواراً خبيثة وتخوض حروباً بالوكالة لمصلحة الملالي وأهدافهم التوسعية التي لم تعد تخفي على أي مراقب موضوعي.
البعض يرى في تهديدات الملالي المتزايدة هذه الأيام رغبة حقيقية للانتقام لمقتل الجنرال سليماني، فيما يرى آخرون أن تعكس مستوى عال من الخوف والقلق من التعرض لضربة عسكرية مفاجأة تجهض برنامجهم النووي، أو على أقل التقديرات تتسبب في تعطيله لعقود وسنوات طويلة مقبلة، بينما يرى فريق ثالث أن هذه التهديدات ليست سوى رسائل لردع الولايات المتحدة عن اتخاذ أي قرار عسكري مباغت، ولأنني اعتبر نفسي متابعاً جيداً للسياسة الايرانية، فإنني اعتقد برجاحة الرأي الثاني، وهو احساس القلق والخوف العارم الذي ينتاب صفوف قادة الملالي في الأيام الأخيرة من ولاية الرئيس ترامب، لأنهم آثروا منذ اغتيال سليماني الرهان على حدوث تغير هيكلي في المواقف الأمريكية في حال فوز رئيس ديمقراطي بالانتخابات الرئاسية، وهذا ماحدث بالفعل، وفاز الرئيس بايدن، متبنياً موقفاً لا يزال تكتنفه الكثير من التساؤلات حول العودة إلى الاتفاق النووي، والغاء قرار ترامب بالانسحاب منه، وبالتالي فلم يتبق أمام الملالي لاثبات صحة رهانهم سوى أسبوعين أو أكثر قليلاً، وليس من المنطقي المغامرة في هذه الفترة بضياع نتائج صمتهم طيلة عام مضى على اغتيال قائدهم الأثير!
الحقيقة أن نظام الملالي يتسبب منذ عام 1979 في إشاعة جو من عدم الاستقرار وغياب الأمن في منطقة الخليج العربي بشكل عام، وهذا الأمر لم يعد ممكنا السكوت عليه، لأن الشواهد تؤكد أننا بصدد نظام انتحاري لا يمتلك أي مشروع تنموي ولا رؤية استراتيجية لإعادة تموضع بلاده في إطار نظام اقليمي يضمن لشعوب المنطقة ودولها بيئة استراتيجية مناسبة للتنمية والتقدم والتطور، وبالتالي فكل ما يخرج به عبار عن برامج تسليحية ـ نووية وصاروخية ـ وأسلحة مختلفة يزود بها الميلشيات الطائفية التي يمولها من عائد صادرات النفط والغاز الايرانية، وليس هناك أي أفق لنهاية هذا المشروع القائم على أهداف توسعية تتجاهل مبادىء الأمم المتحدة وميثاقها، وتنتهك سيادة دول الجوار وتتدخل في شؤونها، بل تقوم باحتلال أراضي دول أخرى ويتفاخر مسؤوليه في وضح النهار وفي تحد سافر للقانون والشرعية الدولية باحتلال عواصمها وتحويلها إلى مراكز تابعة لنظام الملالي!
والحقيقة كذلك أن خصوصية منطقة الخليج العربي بما تمتلك من مخزونات هائلة لمواد الطاقة التي تهم العالم أجمع، تتطلب بلورة استراتيجية عالمية للحفاظ على الأمن والاستقرار وحماية الممرات والمعابر المائية في هذه المنطقة، وردع الميلشيات والتنظيمات العسكرية التي تمثل تهديداً خطيراً لحركة الملاحة البحرية في الخليج العربي بين الفينة والأخرى، ورغم أن هناك شبه توافق دولي حول ضرورة هذه الخطوة لكن يبقى تضارب المصالح وتعارضها وتداخلها بين القوى الكبرى العائق الأكبر أمام بناء أرضية مشتركة يمكن أن تنطلق منها وترتكز عليها مصالح الجميع.
والنتيجة في ظل هذا الوضع المؤسف أن منطقة الخليج العربية باتت رهينة للفوضى والاضطرابات التي يثيرها نظام الملالي الايراني، وهذا يؤثر لا محالة في مصالح دول المنطقة وشعوبها، ما يتطلب من المجتمع الدولي، بقواه المختلفة، ضرورة التصدي لهذه الظاهرة من خلال التعاون وتنسيق الجهود والعمل المشترك من أجل إجبار هذا النظام على الانصياع للقوانين والمعاهدات الدولية، لاسيما تلك المتعلقة بحظر الانتشار النووي، وعدم ترك الفرصة للملالي كي يواصلوا خططهم التوسعية باستغلال حالة الانقسام والخلاف الدولي القائم بين القوى الكبرى حول سبل التعامل مع هذا النظام.
لا يمكن لأي منطقة في العالم أن تعيش في ظل توتر عسكري مزمن، وهناك علامات استفهام عديدة حول الصمت الدولي إزاء ممارسات نظام يرتهن أمن منطقة برمتها لأحلامه التوسعية التي تبشر بضياع عشرات الملايين من الشباب الايراني الذي يكاد يصاب باليأس بعد فشل محاولات التخلص من هذا النظام الذي يجثم على نفوسهم.