لا اعتقد أن أحداً من المراقبين والمهتمين بأزمة الملف النووي الايراني قد فوجىء بالحوار الايراني ـ الأمريكي (غير المباشر) الذي انعقدت أولى جولاته في فيينا مؤخراً، فالجلوس على مائدة التفاوض كان هدفاً ذات أولوية لدى كل من ملالي إيران وإدارة الرئيس بايدن منذ العشرين من يناير الماضي، وماحدث من وقتها من شد وجذب وتصعيد وتهدئة لم يكن سوى مقدمات لتعزيز الموقف التفاوضي لكل طرف قبل التفاوض.
هناك أمور عدة تؤكدها هذه المفاوضات منها أن الرئيس الأمريكي جو بايدن لا يزال مشحوناً بإرث خبرته السابقة كنائب للرئيس الأسبق باراك أوباما طيلة ثماني سنوات، ولا يزال يؤمن بالاتفاق الكارثي الذي أبرمته تلك الإدارة، ولا يزال يعتقد أنه يمثل أساساً للعلاقات الأمريكية مع نظام الملالي، ومن ثم لا يٌتوقع أن يسعى لبناء مقاربة استراتيجية جديدة للتصدي للتهديد النووي الايراني.
الحقيقة التي يصعب إنكارها أن الملالي قد نجحوا في "ترويض" الإدارة الأمريكية الجديدة مبكراً، كما نجحوا في عزلها عن حلفائها التقليديين في الشرق الأوسط من خلال سلسلة مدروسة من الإجراءات التي تنتهك التزامات إيران الواردة في الاتفاق النووي، فلم يوفروا أي فرصة للرئيس الأمريكي للتفكير ومناقشة الأمر مع هؤلاء الحلفاء، واكتفى بالتقوقع حول نقطة العودة للاتفاق النووي، رغم كل ثغرات الاتفاق، ورغم أن هذه العودة لن تقدم ولن تؤخر في وقف التهديدات الايرانية، بل تحولت هذه العودة إلى "هدف" تمضي ورائه واشنطن، من دون التفكير في مراحل تالية لأن استراتيجية الملالي قائمة على كسب الوقت في تيقن بقية الأطراف الموقعة على الاتفاق من طي صفحة الانتهاكات ووفاء الملالي بالتزاماتهم الواردة في الاتفاق النووي، وهذه مسألة قد تستغرق وقتاً طويلاً ربما يقترب من النصف الأولى من ولاية الرئيس بايدن!
ثمة أمر آخر هو "هرولة" الإدارة الأمريكية الجديدة وراء إعادة الملالي للاتفاق النووي بأي ثمن، حتى أن بعض المسؤولين الأمريكية كانوا يشيرون إلى امكانية تبني خطوات لا تتفق مطلقاً مع إعلان الرئيس بايدن عندة توليه منصبه عزمه استعادة هيبة الولايات المتحدة ونفوذها العالمي، فالقول بأن "أمريكا عادت" لم يكني يعني بالتأكيد أن القوى العظمى الوحيدة في العالم عادت لتقديم المزيد من التنازلات لملالي إيران! وهذا مايفسر ـ جزئياً ـ ميل ميزان القوى التفاوضي إلى الملالي وانعكس ذلك في مبادرتهم للقول بأن ممثليهم في فيينا لن يجتمعوا مع الوفد الأمريكي وجها لوجه ما لم تتراجع الولايات المتحدة عن انسحابها من الاتفاق أولاً، واعتبر الملالي أن الولايات المتحدة ليس لها دور في المحادثات حتى تعود إلى الاتفاق بشكل رسمي!
والحقيقة أني لا أجد فارقاً كبيراً بين الأمس واليوم، فما أشبه الليلة بالبارحة، وما يحدث في فيينا لا يختلف كثيراً عن بدايات المفاوضات التي انتهت بتوقيع "خطة العمل المشتركة" في عام 2015، فممثلي بريطانيا وفرنسا وألمانيا يتنقلون بين فندقي الوفدين الايراني والأمريكي، لتقريب وجهات النظر، في تلك الاجتماعات التي يحضرها ايضاً دبلوماسيون روس وصينيون!
السفير الروسي لدى المنظمات الدولية في فيينا، ميكائيل أوليانوف، وصف المحادثات التحضيرية بـ "الناجحة"، وأكد تشكيل لجنتان من الخبراء لبحث اجراءات "المضي قدماً"، وذكرت وزارة الخارجية الأمريكية أن عمل لجان الخبراء مستمر لبحث "القضايا الفنية" في مجالي رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران والخطوات النووية التي قد تتخذها الأخيرة لإحياء الاتفاق ، واتفق المتحدثون جميعهم في أن المحادثات "صعبة" وأن العودة إلى الاتفاق لن تحدث في فترة وجيزة، وهو أمر متوقع بالنظر إلى حرص الملالي على انتزاع ما يطمحون إليه من مكاسب استراتيجية واستغلال "لهفة" الإدارة الأمريكية على تحقيق اختراق ما في أي من ملفات السياسة الخارجية المعقدة.
المبعوث الأمريكي الخاص بإيران، روبرت مالي، قال قبل بداية محادثات فيينا أن الولايات المتحدة تعرف أن عليها أن "ترفع العقوبات التي لا تتناسب مع الاتفاق المبرم مع إيران"، وعندما سُئل المتحدث باسم الحكومة الايرانية، علي ربيعي، عن هذه التصريحات قال إن "الموقف واقعي وواعد"، وأضاف "نحن واثقون بأننا على الطريق الصحيح"، والأمر كذلك بالفعل، فخطى إدارة الرئيس بايدن تمضي وكأنها رُسمت بأيدي الملالي، الذي وجدوا أنفسهم أمام سيناريو أحلامهم، فلا توظيف لنتائج العقوبات الصارمة التي فرضتها الإدارة الأمريكية السابقة على إيران، ولا رغبة في استخدام استراتيجية قائمة على "العصا والجزرة"، بل العودة إلى استراتيجية عام 2015، والبناء عليها مجدداً وكأن ماحدث خلال السنوات الأربع الماضية لم يكن!
لن اقفز إلى نتائج متوقعة لهذه المحادثات، فالمقدمات ـ عادة ـ ماتوفر تصوراً تقريبياً عن النتائج، التي تكاد تكون معروفة، والمؤكد أن استخدام الإدارة الأمريكية الحالية للاستراتيجية التفاوضية القديمة وإعادة إحيائها، لن يوفر للولايات المتحدة مافشلت إدارة أوباما في الحصول عليه عام 2015، بل الأرجح أن يمر الوقت وتنتهي الأمور إلى اعادة انتاج الاتفاق القديم في ثوب جديد!