يطرح المتخصصون والمراقبون تساؤلات عدة مشروعة منذ الاعلان رسمياً عن قرب اتمام انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، فالبعض يخشى أن يعود هذا البلد معقلاً لتنظيم "القاعدة" الارهابي أو أي تنظيم ارهابي آخر بغض النظر عن المسميات، بينما يعتقد آخرون أن هذا الانسحاب يعني تقديم بلد آخر "هدية مجانية" لملالي إيران يستخدمونه في توسيع نفوذهم الاقليمي وكسب المزيد من أوراق الضغط في مواجهة أي ضغوط غربية محتملة، بينما يخشى فريق ثالث عودة عقارب الساعة إلى الوراء عقدين من الزمن، ووقوع أفغانستان مجدداً بيد حركة "طالبان"، وبين هؤلاء جميعاً يعتقد فريق رابع أن وقوع أفغانستان في حرب أهلية مجدداً بسبب حالة الفراغ الأمني المتوقعة عقب انسحاب القوات الأمريكية لا يعني سوى قبلة حياة لتنظيمات التطرف والارهاب كي تتجمع من شتاتها وتستعيد قواها وتتخذ من هذا البلد مسرحاً لأنشطتها تحت مسمى الجهاد!
هذه التساؤلات وغيرها تبدو واقعية وقابلة للتحقق بحسب تطور الأحداث والظروف على الأرض في بلد يعاني الصراعات والفوضى والتشرذم منذ نحو خمس عقود، ولذا فقد سارع نظام الملالي الايراني إلى استضافة محادثات بين ممثلي حركة "طالبان" والحكومة الأفغانية والقيام بدور وساطة بين الطرفين، واللافت أنه لم يصدر أي رد فعل أمريكي حيال التحرك الايراني الذي يحمل بين ثناياه معان استراتيجية خطيرة، في مقدمتها تدخل ايران بقوة في الشأن الأفغاني والسعي لهندسة الخارطة السياسية الأفغانية في مرحلة مابعد الانسحاب الأمريكي بما يضمن المصالح الاستراتيجية الايرانية.
ورغم أن البعض يعتقد أن توسع النفوذ الايراني في أفغانستان سيمضي على غرار الحالة العراقية، بمعنى وجود ميلشيات طائفية موالية لإيران في أفغانستان، فإن تحليل الواقع ربما يشير إلى أن الملالي لن يستنسخوا السيناريو العراقي في أفغانستان، لأسباب واعتبارات عدة أولها تفادي الصدام مع حركة "طالبان" ورغبتهم في بناء تحالف إيراني ـ طالباني مناوىء للولايات المتحدة والغرب عموماً في أفغانستان، فضلاً عن احتمالية سعي الملالي لاستخدام علاقاتهم القوية مع قادة تنظيم "القاعدة" الذين فروا إلى إيران في أوقات سابقة في احياء نشاط التنظيم واعادة تمركزه في أفغانستان لمناكفة الدول الغربية واستهداف مصالحها.
الأمر الأرجح أن حركة "طالبان" الأفغانية تخطط لاستعادة الحكم في البلاد، وتشير بعض التقارير الاستخباراتية الغربية إلى أن الحركة تسعى جاهدة لتعزيز مواقعها على الأرض بما يسهل الاعتراف بها كقوة رئيسية قادرة على حكم البلاد، وهذا يعني عودة أفغانستان إلى مرحلة ماقبل الحادي عشر من سبتمبر 2001، حيث يلوح السيناريو الأفغاني الأسوأ في الأفق، خصوصاً في ظل التقارير المتوالية التي تتحدث عن توسع نفوذ "طالبان" في المدن والاقاليم الأفغانية بصورة متزايدة بانتظار الانسحاب الأمريكي النهائي من البلاد.
عودة كابوس "الملا عمر" مجدداً إلى أفغانستان بعد مرور عشرين عاماً ينطوي على دلالات عدة سلبية في مقدمتها فشل الولايات المتحدة في تحقيق الأهداف التي سعت إليها عندما غزت قواتها أفغانستان، والأمر هنا لا يتعلق باستئصال تنظيم "القاعدة" أم لا بل يشمل مدى وجود البيئة ذاتها التي سبق أن وفرت حاضنة مناسبة للتطرف والارهاب، ناهيك عن وجود احتمالية عالية لنشوب حرب أهلية جديدة في هذا البلد! ونشير هنا إلى تحذيرات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف التي تناول فيها قلق موسكو إزاء حشد تنظيم "داعش" لعناصره في شمال أفغانستان، وقال نصاً "نحن قلقون لأن تنظيم الدولة الإسلامية يكتسب أراض، معظمها في شمال أفغانستان مباشرة على حدود دول حليفة لنا، وسط السلوك غير المسؤول لبعض المسؤولين في كابول، ووسط انسحاب متسرع لحلف شمال الأطلسي"، ما دفع البعض للقول بأن الولايات المتحدة وحلف الناتو يخططون لنشر الفوضى في مناطق تقع بالقرب من خصومهم الاستراتيجيين الأساسيين: الصين وروسيا.
اللافت أن اتمام الانسحاب الأمريكي من افغانستان قد مضى بالتزامن مع توسع نفوذ حركة "طالبان" في البلاد، وحيث يتوقع أن يزداد هذا النفوذ مع انتهاء الانسحاب الامريكي بحلول ذكرى اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر 2001، منهياً بذلك حربا استغرقت عشرين عاماً وتسببت في مقتل 2442 جندي أمريكي وأكثر من 3800 متعاقد أمني أمريكي خاص، و1144 جندي من دول التحالف الأخرى، فضلاً عن مقتل نحو 117 ألف مدني وعسكري أفغاني، وإصابة نحو 20660 جندياً أمريكياً أثناء عمليات قتالية، وبجانب خسائر أخرى فادحة للولايات المتحدة قدرتها جامعة براون الأمريكية بنحو 26ر2 تريليون دولار، بينما قدرت وزارة الدفاع الأمريكي حجم الانفاق العسكري في أفغانستان خلال الفترة من 2001 حتى 2019 بـ 778 مليار دولار، فضلاً عن 44 مليار دولار أخرى انفقتها وزارة الخارجية الأمريكية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ووكالات أخرى في مشروعات إعادة الإعمار هناك، لكن تلك الارقام لا تشمل حجم النفقات العسكرية الأمريكية في باكستان التي تستخدم كقاعدة للعمليات العسكرية المتعلقة بأفغانستان ناهيك عن الدعم اللوجستي للحرب هناك. وفي ذلك تختلف التقديرات اختلافاً واضحاً لتعدد جهات الانفاق ومصادر التمويل والدعم، فعلى سبيل المثال تظهر بيانات رسمية أمريكية أخرى أن حجم الانفاق الأمريكي على إعادة الإعمار في أفغانستان منذ عام 2002 حتى الآن يبلغ نحو 143 مليار دولار! ومن المهم الاشارة إلى أن تقرير للكونجرس الأمريكي صدر في أكتوبر عام 2020، قد تضمن تقديراً لهيئة الرقابة المسؤولة عن الإشراف على جهود إعادة الإعمار في أفغانستان قد ذكر أن حوالي 19 مليار دولار قد ضاعت بين مايو 2009 و 31 ديسمبر عام 2019 بسبب الهدر والاحتيال وسوء الاستخدام، وهذا كله يعكس الخسائر الباهظة التي تكبدها دافع الضرائب الأمريكي جراء هذه الحملة العسكرية التي تبدو على وشك الانتهاء من دون تحقيق انجاز كبير!
سيناريوهات عدة تنتظر أفغانستان مابعد الانسحاب الأمريكي، وجميعها قاتمة وتؤرق مسؤولي الأمن والاستخبارات في الدول الكبرى، ولكن يبقى السيناريو الأصعب لأفغانستان هو وقوف المجتمع الدولي في موقع "المتفرج" الذي يتابع مايدور على أرض هذا البلد من دون يحرك ساكناً لاستباق الأحداث والأخطار.