لا شك أن صمت المجتمع الدولي بقواه الكبرى كافة على انتشار الميلشيات في منطقة الشرق الأوسط، وازدياد نفوذ هذه الميلشيات التي يمولها ويسلحّها ـ حصرياً ـ نظام الملالي الايراني، قد أغرى المُموَل والمُموِل معاً على ارتكاب المزيد من الخطايا والتجاوزات التي تعمق حالة عدم الفوضى وغياب الاستقرار في المنطقة؛ والأمثلة على ذلك عديدة ويصعب حصرها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وغيرها.
أحدث مظاهر هذه التجاوزات ما يفعله "حزب الله" اللبناني، الذي تضيف سلوكياته المزيد من الدراما والعبثية على المشهد اللبناني في أبعاده الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية، فالحزب الذي يفاخر قائده بالطاعة والتبعية للمرشد الايراني الأعلى مخترقاً حدود الولاء الوطني، يريد نسف ماتبقى للبنان، الدولة والشعب، من مقومات الحياة بمحاولة إشعال حرب مع اسرائيل خدمة لمموليه في طهران، وإسهاماً في رفع الضغوط الدولية الواقعة عليهم من خلال توريط الشعب اللبناني ـ كالعادة ـ في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل!
يتحدث حسن نصر الله عن قواعد الاشتباك مع اسرائيل ويستفزها بالحديث عن خشيتها من مواجهة كبرى مع ميلشيا حزبه، وأن اسرائيل "خائفة على وجودها" بسبب أذرع الملالي وميلشياتهم التي تعمل في إطار مايوصف بمحور "المقاومة"، وغير ذلك من أشكال الاستفزازات التي تُمارس خدمة لنظام الملالي الايراني وإسهاماً في رفع الضغوط عنه من دون اي مراعاة لظروف البلد الذي ينتمي إليه ـ ظاهرياً على الأقل ـ الحزب اللبناني!
لبنان الذي يعيش مخاضاً عسيراً للغاية بانتظار تشكيل حكومة تساعد في انقاذ الوضع من الانهيار اقتصادياً وسياسياً وأمنياً وصحياً وغذائياً، لم يكن بحاجة إلى مزيد من الأعباء التي يضيفها هذا الحزب الذي أصبح عالة حقيقية على هذا البلد العربي، حيث بات يتصرف منذ سنوات خارج سلطة وسيادة الدولة وكأنه دولة داخل الدولة اللبنانية، بل بات مختطفاً لنفوذها والكثير من قرارتها ومتحدثاً كذباً وزوراً باسمها!
هناك بعض التقارير الاعلامية الغربية والعربية تقول أن الولايات المتحدة قد مارست ضغوطاً على اسرائيل لعدم اللجوء إلى تغيير قواعد الاشتباك في الجنوب اللبناني في الوقت الراهن خشية أن يؤثر ذلك سلباً على موقف الملالي إزاء استئناف مفاوضات الاتفاق النووي بحسب ماهو مُقترح في سبتمبر المقبل، وهذه كلها تفاعلات سياسية لا شأن للبنان بها بحسب مايفترض نظرياً، ولكن السيد نصر الله يتفهم جيداً حدود دوره في إطار المخطط الايراني الاقليمي، ولا يأخذ باعتباره ظروف بلده وشعبه التي لا تخفى على أحد، بل يقول نصاً "لن نضيع ما أنجزته المقاومة في حرب تموز مهما كانت التضحيات، وأيضًا لمنع العدو من استباحة لبنان، وأنه أيًا تكن الأوضاع في لبنان داخليًا فلا يهمنا لأننا سنحمي لبنان، ولا تراهنوا على الانقسام حول المقاومة لأن هذا الانقسام قديم، ولم يكن من إجماع وطني حول المقاومة في أي يوم من الأيام"، أي أنه يقفز تماماً على تداعيات الأزمة اللبنانية ويضيف إليها تعقيدات جديدة بالإعلان عن امكانية التورط في حرب مع اسرائيل بغض النظر عن ظروف الشعب اللبناني الراهنة!
الحقيقة أن "حزب الله" اللبناني يمثل نموذجاً للمعضلة التي تعانيها الدولة الوطنية في المنطقة العربية، واقصد هنا التنظيمات والميلشيات العابرة للسيادة الوطنية، والتي يصعب في ظلها الحديث بموضوعية أو عقلانية عن وجود دولة تمتلك سيادة فعلية على قرارها وسياساتها، وهي حالة قائمة في دول عربية عدة بدرجات مختلفة، أخطرها بالطبع اليمن ولبنان والعراق، وهو أمر يتطلب موقفاً اقليمياً ودولياً سريعاً وفاعلاً لايجاد حلول لانتشال هذه الدول من المأزق الذي وجدت نفسها فيها.
قناعتي أن الحل يجب أن يبدأ من التعامل مع جذور الأزمة أو المعضلة لا أعراضها، واستئصال هذه الجذور التي تستنزف الجهود الدولية الهادفة إلى استقرار الأوضاع في هذه الدول والمنطقة بشكل عام، والحديث هنا لابد وأن يدور بشكل واضح وصريح عن ضرورة كف أيدي ملالي إيران ولجم تدخلاتهم والحد من نفوذهم في هذه الدول، أما كيف ذلك، فستبقى علامة استفهام مهمة تحتاج إلى نقاشات مستفيضة لوضع حلول قابلة للتنفيذ تنهي هذه الأزمة من جذورها وتعيد هذه الدول إلى مسارها الحضاري والتاريخي الطبيعي بعيداً عن هيمنة وتأثير الميلشيات والأذرع الايرانية المؤدلجة.