أعلنت حركة "طالبان الأفغانية مؤخراً تشكيل حكومة مؤقتة لتصريف الأعمال في البلاد، كما أعلنت البلاد "إمارة إسلامية"، وقد انطوي التشكيل الجديد على العديد من الأبعاد والدلالات التي تفسر إلى حد كبير نوايا الحركة وسياساتها، ويمكن استعراض ذلك في نقاط عدة أولها إصرار الحركة على التمسك بجوهر نظام وفلسفة حكمها القائمة على أيديولوجية الحركة، وذلك من خلال إعادة إعلان نظام "الإمارة الاسلامية" على غرار نموذج حكم الحركة إبان فترة حكمها الأولى بين عامي 1996ـ 2001، ما يشير إلى عدم حدوث تحولات جذرية في الثوابت والأساسيات وأن علينا عدم بناء سقف توقعات أعلى مما تعكسه الشواهد والاشارات التي ترسلها سلوكيات الحركة. النقطة الثانية تتعلق برئاسة الملا محمد حسن آخوند رئاسة الحكومة الجديدة، ما يعني أننا بصدد حكومة ثيوقراطية بالمعنى
التقليدي بغض النظر عن محاولات الحركة تجميل وجهها وتسويق سياساتها عبر الاعلان عن ممارسات جديدة؛ فرئيس الوزراء هو أكبر قيادات "طالبان" سناً (65 عاماً) ويكتسب قدراً كبيراً من مكانته من علاقته القديمة بالزعيم المؤسس للحركة الملا عمر وكذلك بالزعيم الحالي للحركة، وكان وزيراً لخارجية الحركة في فترة حكمها الأولى ثم نائباً لرئيس الوزراء ويخضع لعقوبات أممية شأنه شأن كل مسؤولي وقيادات طالبان في تلك الفترة، ولكن اختياره كدبلوماسي وسياسي ربما ينطوي على إشارة بشأن الرغبة في تفادي عسكرة الحكم أوعدم إضفاء طابع عسكري على القيادة الحكومية للبلاد.
النقطة الثالثة أن حركة "طالبان" تتجه إلى استنساخ نظام حكم الملالي في إيران أو اقامة نظام حكم مشابه من خلال وجود زعيم روحي يتولى المسؤوليتين الدينية والسياسية، ويعتلي قمة هرم السلطة، لاسيما أن رئيس الحكومة يرأس مجلس حكم طالبان، وهي هيئة قوية لصنع القرار وتعرف باسم مجلس القيادة، ولكن الملاحظ أن الحركة لم تشر إلى هذا المنصب حتى الآن ويتم الاكتفاء بالاشارة إلى زعيم الحركة هبة الله أخوند زاده من دون منصب سياسي بخلاف زعامة الحركة، ويعتقد أن الأمر يرتبط بمحاولة صياغة شكل نظام الحكم الجديد وتسلسه الهرمي بحيث يكون مقبولاً من المجتمع الدولي.
النقطة الرابعة تتعلق بهيمنة الزعماء التاريخيين للحركة على التشكيل الحكومة من دون وجود لأي شخصيات شابة أو جديدة ناهيك عن غياب العنصر النسائي وهو أمر متوقع بطبيعة الحال، فرئيس الوزراء ونائبه الملا عبدالغني برادار من القادة المؤسسين للحركة، كذلك هناك نحو أربعة وزراء من وفد حركة طالبان الذي شارك في مفاوضات الدوحة مع الولايات المتحدة، والتي توجت في فبراير 2020 بتوقيع اتفاق انسحاب القوات الأمريكية من افغانستان، وهو الوفد الذي قاده الملا عبد الغني برادار وشارك فيه آخرون منهم الملا عبد السلام حنفي والملا محمد حنيف والملا عبد اللطيف منصور، فضلاً عن وجود معتقلين سابقين في "جوانتانامو" ضمن التشكيل الوزاري المعلن، وهو مايوحي بالرغبة في مكافأة بعض القيادات التاريخية للحركة عن دورها خلال المرحلة السابقة، فضلاً عن افتقار الحركة لعناصر شابة مؤهلة قادرة على تحمل مسؤولية العمل السياسي بالنظر إلى غياب أي رؤية مستقبلية لدى الحركة منذ تأسيسها وتركيزها على العمل العسكري من دون الاستعداد لتولي مسؤوليات الحكم، ما تسبب في افتقارها للخبرات والكوادر السياسية والدبلوماسية المدربة.
النقطة الخامسة أن طالبان لم تلتزم بوعدها بتشكيل حكومة موسعة بل رسخت وجودها المهيمن على التشكيل الحكومي مع الاكتفاء بالايحاء بمراعاة التنوع العرقي من خلال وجود وزراء من قوميات أخرى غير "الباشتون" ولكنهم بالأساس أعضاء في "طالبان" وينتمون لها سياسياً وفكرياً ما يعكس عدم التزام الحركة بوعودها في هذه الجزئية بما يشير إلى غياب الشفافية والنوايا الصادقة في تفادي أخطاء الماضي. النقطة السادسة تتمثل في إعلان تشكيل حكومي تطغى عليه الشخصيات الخاضعة لعقوبات دولية وأمريكية ابتداء من رئيس الحكومة حتى الوزراء، ما يضعف فرص هذه الحكومة في كسب ود العالم أو على الأقل يطيل مدة الحصول على الشرعية الدولية، وهنا يلاحظ انعدام أي رغبة لدى الحركة في الاستفادة من الكوادر الحكومية في الحكومة السابقة حتى ولو في الوزارات ذات الطابع الفني أو المتخصص مثل الزراعة والتعدين وغير ذلك، وتلك مسألة لافتة تشير إلى مستويات الاقصاء والتهميش التي ستطغى على المشهد الأفغاني خلال المرحلة المقبلة.
حكومة "طالبان" الجديدة هي حكومة يغلب عليها الطابع الديني، ولا تعكس المرحلة التي قطعتها أفغانستان منذ سقوط حكم الحركة عام 2001، حيث تجاهلت الحركة تماماً حدوث تطور مجتمعي أياً كانت درجاتها وتأثيراته، وأبرزها وجود عناصر نسائية قادرة على تحمل مسؤولية الحكم وتمثيل الشعب الأفغاني، فتم تغييب الشباب والكوادر المؤهلة وعادت طالبان بنسخة أقرب إلى 2001، فيما يعكس عدم قدرة الحركة على تجاوز مرحلة الحروب والانتقال إلى مرحلة العمل السياسي والتحول من فكر التنظيم إلى فكر الدولة، الأشمل والأكثر استيعاباً للتعددية والتنوع العرقي والمذهبي والقومي، وهي كلها معضلات متوقعة ستواجه طالبان التي تتحدث بشكل جيد ولكنها لا تزال تتباطىء في ترجمة أقوالها إلى أفعال.