قد لا يكون هناك توقيت أكثر حساسية من الوقت الراهن لإنضمام أعضاء جدد إلى حلف شمال الأطلسي "ناتو" أو تنفيذ خطط توسع الحلف شرقاً، حيث تشير التقارير والشواهد إلى وجود إحتمالية عالية لطلب كل من فنلندا والسويد الانضمام إلى الحلف في غضون الأسابيع المقبلة، وتحديداً قبل أن تلتئم قمته في اسبانيا بنهاية شهر يونيو القادم.
"الحماس" الأمريكي لإنضمام فنلندا والسويد يبدو واضحاً، حيث قال عضو مجلس الشيوخ الأمريكي توم تيليس، في جلسة إستماع أمام لجنة مجلس الشيوخ للقوات المسلحة: "أجريت مشاورات في بروكسل مع عدد من المشرعين الأمريكيين قبل أسبوعين بشأن إنضمام فنلندا والسويد إلى الناتو، وكذلك التقيت بوفد سويدي في واشنطن، ووفقا لجميع المؤشرات، فبحلول نهاية يونيو المقبل، سيكون لدينا طلب رسمي من فنلندا والسويد للانضمام إلى الحلف"، وأضاف: "نحن هنا في مجلس الشيوخ سنبذل قصارى جهدنا لتسريع العملية، وأعتقد أنها ستتلقى دعما واسعا من الحزبين الجمهوري والديمقراطي". بدورها، أعربت وزيرة الجيش (القوات البرية) الأمريكية كريستين ورموت، عن أن "كلا من فنلندا والسويد، في حال انضمتا إلى الناتو، ستصبحان موردين للأمن وليس مستهلكين"، وأضافت: "أتطلع إلى أن يصبحوا أعضاء في الحلف"، بينما أكد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الأسبوع الماضي، أن واشنطن "تدعم وبشدة محاولة فنلندا والسويد للانضمام إلى الناتو إذا كانت هلسنكي وستوكهولم مستعدتان للأمر".
"الحماس" الأمريكي يقابله غضب روسي واضح، حيث قالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا إن فنلندا والسويد ستتحولانِ إلى ساحة مواجهة بين الناتو وروسيا في حال إنضمامهما الى الحلف، مع كل العواقب المترتبة على ذلك، بما فيها فقدان علاقات حسن الجوار التي تم إختبارها على مر الزمن، متسائلة عما إذا كانت هذه هي رغبةُ شعبي البلدين.. وفي السياق ذاته قال نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري مدفيديف إن محاولات التنصل من الإتفاقات الموقعة بين روسيا والحلف ومنها القانون التأسيسي الصادر في مايو سبعة وتسعين، ستؤدي الى احتمال نشر أسلحة نووية أطلسية في أراضي دول جديدة مثل فنلندا والسويد. وكل ماسبق يعني أن أي قرارمن فنلندا والسويد بتقديم بطلب الانضمام للحلف رسمياً يعني بالتبعية الانتقال من حالة الحياد إلى خط المواجهة الساخن بكل ما ينطوي عليه من أخطار تفرزها الظروف الإستراتيجية الراهنة.
وبحسب صحيفة "الجارديان"، البريطانية، فقد ذكرت آن ليندي، وزيرة الخارجية السويدية، أن بلادها تلقت تأكيدات من الولايات المتحدة بأنها ستتلقى الدعم خلال هذه الفترة. وقالت ليندي للتلفزيون السويدي من واشنطن بعد لقاء أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، "بطبيعة الحال، لن أخوض في أي تفاصيل، لكنني على ثقة تامة من أن لدينا الآن ضمانًا أمريكيًا". وأضافت ليندي: "مع ذلك، ليست الضمانات الأمنية الملموسة، تلك التي لا يمكنك الحصول عليها إلا إذا كنت عضوًا كامل العضوية في الناتو"، ومع ذلك فقط أقرت الوزيرة السويدية بأن تلك الضمانات لا ترتقي إلى حد واجبات الحلف تجاه الدول الأعضاء، أي أنها ضمانات فردية أمريكية، وقالت في ذلك تحديداً بعد أن رفضت الكشف عن طبيعة هذه الضمانات، إن الضمانات "تعني أنه إذا كان بإمكان لروسيا أن تكون واضحة في توجيه أي نوع من الأنشطة السلبية ضد السويد، بحيث تهدد أمنها، فلن يكون ذلك شيئًا تسمح الولايات المتحدة بحدوثه دون رد". ولكن الملاحظ هنا أن السويد تخشى ـ كما قال وزير دفاعها الشهر الماضي ـ أن تشمل التهديدات الروسية الهجمات الإلكترونية والتدابير الهجينة - مثل الحملات الدعائية - لتقويض أمن السويد، في حين أن روسيا حذرت بشكل صريح من أنها قد تنشر أسلحة نووية وصواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت في جيب كالينينغراد (أقرب النقاط الجغرافية الروسية على بحر البلطيق من الحدود الفنلندية والسويدية بالاضافة إلى بولندا وليتوانيا ولاتفيا واستونيا) إذا انضمت السويد وفنلندا إلى الناتو.
على الجانب الفنلندي، تشير رئيسة الوزراء سانا مارين، في تصريحات منشورة إلى رغبتها في التصديق "بأسرع ما يمكن" من قبل 30 دولة عضو في الناتو، في حالة الترشح وحدها أو مع السويد للإنضمام إلى الحلف، وترى أن هذه الخطوة هي "أفضل ضمان أمني" لبلادها، وأضافت مارين أن هلسنكي تجري أيضا مناقشات مع الدول الرئيسية في الحلف للحصول على ضمانات الحماية خلال فترة إقرار العضوية التي يمكن أن تستمر عدة أشهر.
الواضح إذاً أن مسألة الترشح قد تم تجاوزها، وأن القضية الأساسية الآن هي أن يكون لدى الدولتين "أقصر عملية تصديق ممكنة"، فضلاً عن الحصول على الضمانات الأمنية اللازمة خلال الفترة الإنتقالية.وبطبيعة الحال فإنه مهما كانت الضمانات فلن ترتقي إلى حد مظلة الحماية التي توفرها المادة (5) الواردة في معاهدة تأسيس الحلف، والمعروفة بمبدأ الدفاع الجماعي، والتي تضمن إستخدام موارد الحلف لحماية ومساعدة أي دولة عضو تخضع لهجوم مسلح، وتنص على "يتفق الأطراف جميعهم على أن أي هجوم أي عدوان مسلح، ضد دولة واحدة أو أكثر منهم في أوروبا أو أمريكا الشمالية يعتبر هجوما ضدهم جميعا، وبالتالي يوافقون على أنه، حال وقوع هذا العدوان المسلح، ستساعد كل دولة منهم، تطبيقا لحق الدفاع عن النفس الفردي أو الجماعي المعترف به بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، الطرف أو الأطراف التي تعرضت لهجوم من خلال اتخاذ الإجراءات التي تراها ضرورية، سواء بشكل فردي أو بالتنسيق مع الأطراف الأخرى، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة، لإستعادة أمن منطقة شمال الأطلسي والحفاظ عليه"، وأنه "يجب إبلاغ مجلس الأمن فورًا بأي هجوم مسلح من هذا القبيل وجميع التدابير التي تم اتخاذها بناء على ذلك. وتنتهي هذه الإجراءات عندما يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لاستعادة وصيانة السلام والأمن الدوليين"، ولم تختبر هذه المادة سوى مرة واحدة عقب إعتداءات 11 سبتمبر لمساندة الولايات المتحدة ضد الإرهاب.
العنصر الأكثر اثارة للقلق هو تفاقم التوتر بين روسيا وكل من فنلندا والسويد خلال الفترة الانتقالية التي تسبق الانضمام رسمياً للحلف، ولاسيما أن مبدأ الدفاع الجماعي هو العنصر الأكثر حساسية لدى موسكو، ودائماً ما يتسبب في إثارة حنق الكرملين، لذا قد يفكر في منع الدولتين من الإنضمام للحلف بشكل إستباقي، حيث حذرت موسكو من ان إنضمام الدولتين للحلف سيؤدي إلى عواقب عسكرية وسياسية خطيرة، وتحدثت عن "إجراءات انتقامية".
في وجهة نظري أن مايحدث يمثل تحولاً تاريخياً بالنسبة لفلنلدا تحديداً، التي بقيت محايدة خلال فترة الحرب الباردة، ويبدو حماس أعضاء الناتو لانضمام الدولتين مفهوماً في ظل رغبة الحلف في منع أي خطط روسية لخوض حرب ضد أوروبا، ولاسيما أن فلندا تمتلك حدوداً يبلغ طولها أكثر من 1300 كم، هي الأطول بيد دولة في الاتحاد الأوروبي وروسيا.
رغم أن القرار الرسمي لفنلندا والسويد بطلب الإنضمام لحلف الأطلسي لم يصدر رسمياً بعد، فإن تزايد التكهنات حول اقتراب هذه الخطوة بحلول قمة الحلف في نهاية الشهر المقبل، يعني أن الأزمة بين روسيا والغرب على وشك الدخول في نفق جديد بدلاً من البحث عن تسوية تنهي مايحدث في أوكرانيا.