لا خلاف على أن الرئيس جو بايدن الذي يستعد لزيارة مرتقبة للمملكة العربية السعودية منتصف الشهر الجاري، قد دفع العلاقات بين بلاده وأحد أهم حلفائها الإستراتيجيين لإختبار صعب ومعقد للغاية، عندما أخذ على نفسه تعهدات كان الجميع يدرك منذ البداية أن عواقبتها الإستراتيجية ستعود بالأساس على الولايات المتحدة وليس على الطرف الآخر، المملكة العربية السعودية.
الشواهد تقول أن الشرق الأوسط يتغير بوتيرة متسارعة، وأن اللاعب الأساسي في هذه التغييرات هم قادة دول المنطقة وليس اللاعب الرئيسي الأوحد عالمياً، فالمملكة العربية السعودية في ظل ولي عهدها الشاب الأمير محمد بن سلمان، ترسم واقعاً إستراتيجياً جديداً بفتح صفحة جديدة في العلاقات مع تركيا وإستئناف مسار الشراكة بين البلدين، وتوطيد العلاقات بين بلاده ودول المنطقة، بما يصب في مصلحة تبريد التوترات وتهدئة الأجواء الإقليمية، فضلاً عن تعزيز مستويات الإعتماد المتبادل بين دول المنطقة في تحقيق الأمن والإستقرار في ظل الغموض والإلتباس الحاصل بشأن الإنسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط، بما دفع الكثيرين من المراقبين للقول بأن هناك واقعاً إستراتيجيًا شرق أوسطياً جديداً يتشكل في ظل الغياب الأمريكي.
من باب المفارقة أن سياسات الرئيس بايدن القائمة على مواقف سلبية تجاه المملكة العربية السعودية قد غذت الجهود السعودية القائمة على تسريع وتيرة تنويع الشراكات الدولية والإسراع ببناء نظام من الإعتماد المتبادل بين الشركاء الشرق أوسطيين والدوليين الآخرين، وقد أسهم ذلك في بروز دور المملكة العربية السعودية كقوة مؤثرة في صناعة السياسات والقرارات الدولية عقب إندلاع أزمة أوكرانيا، والأمر هنا لا يتعلق بسياسات الطاقة فقط، بل أيضاً بعلاقات الشراكة والتحالف والتبادلات التجارية مع قوى دولية أخرى مثل روسيا والصين.
على خلفية ماسبق، تبدو الزيارة المرتقبة للرئيس بايدن للمملكة العربية السعودية كحدث تاريخي، البعض يصفها بهرولة أمريكية باتجاه الرياض، والبعض يعتبرها إستدارة لتصحيح أخطاء السياسة الخارجية للولايات المتحدة، ولكنني اعتبرها محاولة لعبور مرحلة من مراحل سوء التقديرالأمريكي، فما حدث ليس خطأ يمكن تصحيحه أو غض البصر عنه، بل سوء تقدير كارثي لأهمية وثقل علاقات الشراكة بين واشنطن ودول مجلس التعاون، حيث غاب التقدير الدقيق عن الرجل الأول وطاقمه الرئاسي حين اعتبروا أن الشراكة مع الخليج العربي ليست سوى نفطاً فقط، وأن دخول مرحلة النفط الصخري ووقف الإعتماد على واردات النفط الخليجية هو إعلان رسمي بتراجع أهمية هذه الشراكة!
بالتأكيد أنه لم يكن سوء تقدير صانعي السياسة الأمريكية فقط، ومن يعود إلى الكثير من الأدبيات الصادرة عن معاهد البحوث الإستراتيجية الأمريكية المتخصصة في السنوات القلائل الماضية يستنتج بسهولة أن تلك هي "الفكرة" التي هيمنت على فكر النخبة السياسية الأمريكية بشكل يمكن وصفه بالهستيري!
الخليج ليس نفطاً فقط، وهذه حقيقة ولكن ماحدث بالفعل على صعيد العلاقات السعودية ـ الأمريكية منذ وصول الرئيس بايدن للحكم، كان فرصة ذهبية للسياسة الخارجية السعودية لإعادة رسم قواعد هذه الشراكة التاريخية بما يتماشي مع الواقع الإستراتيجي الجديد ورؤية القيادة للمصالح السعودية في القرن الحادي والعشرين، وهكذا تحول ما اعتبره البعض "محنة" للسياسة السعودية إلى منحة وفرصة نجح ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في إستثمارها لأبعد مدى تحقيقاً لمصالح بلاده ببناء شبكة واسعة من العلاقات الدولية في المجالات الإقتصادية والتجارية والإستثمارية والطاقوية وغيرها.
المعضلة الأساسية أنه لم يعد هناك ثقة راسخة لدى عواصم دول مجلس التعاون في مستوى الإلتزام الأمريكي بأمن الحلفاء في هذه الدول، بل باتت الشكوك تسبق كل تصريح أمريكي بشأن الإلتزام، لأنه ببساطة لم يعد هناك تماهياً بين الفعل والقول، وبين ما يعلن وماينفذ، وبالتالي أصبحت صيغة الشراكة بمجملها في مرمى المراجعة وإعادة التفكير خليجياً.
كانت اللحظة مناسبة تاريخياً كي تعيد المملكة العربية السعودية رسم سياساتها وتحالفاتها، من دون أن يعني ذلك إنهياراً للتحالف التاريخي القائم بين الرياض وواشنطن، فما حدث هو توظيف ذكي لهامش المناورة السياسي الذي ترتب على الخطوة التي أخذتها واشنطن للخلف في علاقاتها مع الرياض ظناً من الأولى بأنها قادرة على الضغط على الثانية واخضاعها لإرادتها من دون إدراك للمتغيرات والمعطيات الإستراتيجية الجديدة التي طرأت على الساحة الدولية سواء بفعل تفشي أزمة "كورونا" أو بسبب إندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا.
بالتأكيد ليس لدى السعودية أو بقية دول مجلس التعاون أي توجه للإستغناء عن علاقات التحالف الإستراتيجي التاريخية مع الولايات المتحدة، لاسيما أن الأمر لا يتعلق بتغيرات في سياسات هذه الدول بل بتباين الرؤى الديمقراطية / الجمهورية على الصعيد الأمريكي.
الكرة الآن في ملعب الرئيس بايدن تحديداً، حيث زيارته المرتقبة للمملكة محدد أساسي لبوصلة العلاقات السعودية الأمريكية على الأقل خلال السنوات المتبقية من فترة رئاسته، لذا فإن مخرجات الزيارة ستكون المؤشر الأساسي لقدرته على تجاوز أزمة الثقة القائمة، ومعالجة آثار الحقبة الماضية والتعامل مع الشريك السعودي بما يتناسب مع أهمية هذه الشراكة وحجم التحديات المشتركة للبلدين.