في تصريح مهم أدلى به مؤخراً، قال المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رفائيل غروسي، إن تخلي إيران تدريجياً عن التزاماتها تجاه البرنامج النووي لا يعني أنها تصنع سلاحاً نووياً. وقال غروسي في حوار مع صحيفة "باييس" الأسبانية ""لدينا اليوم (في إيران) برنامج نووي نما بشكل ملحوظ، أكثر بكثير مما كان عليه في عام 2015. هذا النمو ليس كميا فحسب، بل نوعيا أيضا.. هذا لا يعني أن إيران تصنع أسلحة نووية، لكن لا توجد دولة ليس لديها تطورات عسكرية تنتج تخصيبا بهذا المستوى، بمستوى 60 بالمئة".
هذا التصريح الذي يبدو في ظاهره محاولة لاحتواء حدة التوتر المتصاعد بين إيران ووكالة الطاقة الذرية في الأسابيع الأخيرة، لا يقدم الكثير على هذا الصعيد، فالمسؤول الأول عن الوكالة المعنية بمراقبة البرنامج النووي الإيراني يقر فيه بأمور عدة أولها تخلي إيران المتواصل عن التزامتها حيال البرنامج النووي، وثانيها اقرار بأن البرنامج النووي الإيراني قد تطور نوعياً وكمياً، مقارنة بما كان عليه في عام 2015، حين تم توقيع الإتفاق النووي بين طهران ومجموعة "5+1" خلال فترة حكم الرئيس الأمريكي الأسبق باراك اوباما، وأخيراً إقرار بأنه لا توجد دولة تمتلك ترسانة أسلحة كبيرة مثل إيران وتقوم بتخصيب اليورانيوم بمستوى 60%، واعتقد أن المقصود في هذه الجزئية هو تطور البرنامج الصاروخي الإيراني الذي يضيف بعداً أكثر خطورة للتهديد النووي الإيراني.
تصريح غروسي لا ينطوي إذاً في حقيقة الأمر على أي طمأنة، فمحاولة تفكيك العلاقة بين إمتلاك قدرات تخصيب عالية من ناحية وتصنيع سلاح نووي من ناحية ثانية هي محاولة مهنية "نظرية" وتتماشي مع طبيعة عمل الوكالة التي يجب أن تستند إلى أدلة ملموسة وموثوقة في استنتاجاتها، ولكنها في الحالة الإيرانية تحديداً لا يمكنها الوصول إلى بناء أي إستنتاجات أو إمتلاك أدلة في هذا الشأن سواء بالنظر إلى تمرس النظام الإيراني في التعامل مع الوكالة ومراقبيها، أو بالنظر إلى صعوبة التوصل إلى مثل هذه الأدلة بشكل عام سواء لدى إيران أو غيرها، وبالتالي فتصريحات رئيس الوكالة لا تنطوي على أي طمأنة للدول التي تستشعر القلق تجاه التهديدات النووية الإيرانية.
المؤكد في المسألة أن إمتلاك قدرات تخصيب عالية تقترب من المستوى اللازم لصناعة قنبلة نووية لا يحتاج إلى أدلة لإثبات مستوى التهديد، لأن الوصول إلى مستوى تصنيع السلاح النووي لا يحتاج في مثل هذه الحالات ـ على الأرجح ـ سوى إلى قرار سياسي، والجميع يعرف أن النظام الإيراني يسعى منذ بداية الامر إلى كسب الوقت من خلال المراوغة والتملص تارة، ومن خلال توقيع إتفاقات مليئة بالثغرات، كاتفاق عام 2015 المعيب، تارة أخرى، من أجل بلوغ العتبة النووية والوقوف عليها لأن الكل يعلم أن امتلاك التقنيات والمعرفة هو الأساس وليس امتلاك سلاح نووي، وأن مراكمة كميات اليورانيوم المخصب وتخزينها وإمتلاك المعرفة اللازم لصناعة القنبلة أخطر وأشد تهديداً من شراء سلاح نووي جاهز على سبيل المثال.
السؤال الأكثر إلحاحاً في هذا السياق: كيف يمكن قراءة تصريحات رفائيل غروسي؟ هنا يمكن القول بأن المسؤول الأول عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لا يريد بالتأكيد تخريب العلاقة بين إيران والوكالة، ولا يريد تصعيد التوتر بين الجانبين بما يدفع العالم إلى أزمة إضافية تضاعف تداعيات الأزمة الأوكرانية، ولكنه بالمقابل لم يحاول التخفيف من وطأة انتهاك إيران لالتزاماتها النووية، بل وضع الحقيقة أمام العالم، ولذا فإن تحليل المشهد يبدو وكأن التصريح لا ينطوي سوى على توصيف الواقع، وهو أمر متوقع مهنياً كما أشرت سالفاً، ولكن المستوى السياسي للنقاش يجب أن يأخذ بالاعتبار أن إحتمالية توجيه النظام الإيراني بصنع سلاح نووي ليست مستبعدة تماماً ، وأن الأمر ليس كما يردد قادة هذا النظام استناداً إلى ما يصفونه بفتوى دينية قديمة بتحريم انتاج وتخزين السلاح النووي، وهو ما يعني أننا نستند إلى كلام مُرسل يمكن التهرب منه وتبرير ذلك بسهولة بالغة، وقد سبق لعلي أكبر صالحي رئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية السابق، أن اعترف في تصريحات متلفزة عام 2019 بمراوغات خداع فاضح حين قال "وفقاً للاتفاق النووي، تقرر أن نقوم بصب الإسمنت في أنابيب مخازن الوقود في مفاعل آراك لإغلاقه نهائياً وقد فعلنا هذا، لكنني قمت بعد ذلك بشراء أنابيب أخرى مشابهة بنفس العدد وبعلم أعلى شخصية في النظام فقط (المرشد الأعلى علي خامنئي) والآن نمتلك هذه الأنابيب"!.
تبرير مثل هذا التصرف المخادع له مرجعية في الفقه السياسي والديني الإيراني، القائم على مبدأ التقيه، ولذا فإن المرشد الأعلى خامنىء يجد دائماً المبرر بأنه لا يمكن الوثوق بالغرب، وهذه رأيه ولكن لا أحد كذلك أجبر قادة النظام على الحديث المتكرر عن فتوى التحريم التي يروج لها المفاوضون الايرانيون كثيراً لدى نظرائهم الغربيين، ناهيك عن أن الفتوى نفسها غير مكتوبة ولم تصدر في وثيقة رسمية معتبرة حتى الآن، خصوصاً أن سلوك النظام يفضح أي حديث في هذا الإتجاه، لأن الصواريخ متعددة الأمدية التي تخصص لها طهران موارد هائلة لا تنطوي على فاعلية كبرى إلا في حال تحميلها برؤوس نووية.