منذ أن نفذت حركة "حماس الإرهابية" هجومها ضد دولة إسرائيل في السابع من أكتوبر الماضي، وهو الهجوم الذي أشعل الحرب الدامية الدائرة حتى الآن في قطاع غزة، لا نكاد نسمع من الدبلوماسية العربية سوى الدعوات المتتالية لوقف إطلاق النار، والإدانات المتكررة التي لا تجد صدى سوى في وسائل الاعلام العربية المحلية. الكثيرون ينتقدون ضعف الدور العربي الباهت في أزمة غزة، ويستغرب المتخصصين والمراقبين غياب الفاعلية عن الدبلوماسية العربية الجماعية ووجود فراغ سياسي هائل استغلته الميلشيات الموالية لإيران، فبرزت جماعة "الحوثي الإرهابية" في اليمن لتدعي الدفاع عن الشعب الفلسطيني بقطع الملاحة في باب المندب وتهديد السفن التجارية، وعلا صوت ميلشيات إرهابية أخرى في العراق تزعم بين الفينة والأخرى القيام بشن هجمات صاروخية وبالطائرات "المسيرات" ضد دولة إسرائيل، ناهيك عن "حزب الله" اللبناني الذي زج بنفسه في المشهد المأزوم من دون أن يحقق أي نتيجة عملياتية حقيقية، سوى أنه منح دولة إسرائيل سبباً إضافياً لاقناع داعميها في الغرب بحجم التهديدات الإرهابية والوجودية التي تحاصرها من كل حدب وصوب في منطقة الشرق الأوسط.
المسكوت عنه بالنسبة للدور العربي في أزمة غزة هو غياب أي رؤية سياسية جماعية عربية للتوصل لحل ينهي الأزمة رغم استمرارها أكثر من سبعة أشهر، والاكتفاء بالبيانات الرسمية لحفظ ماء وجه الجميع من دون تسمية الأمور بمسمياتها ومن دون القيام بدور حقيقي لانقاذ الشعب الفلسطيني من تهور الفصيل الإيراني الحمساوي، الذي قرر المغامرة بمصير الملايين في قطاع غزة من أجل الافراج عن مجموعة من عناصر الحركة الإرهابية من السجون الإسرائيلية تحت غطاء وشعارات تحرير فلسطين والقدس وبخطة أقل ما يقال عنها أنها بلهاء من دون أن يدرس جيداً عواقب هجومه الدامي ضد دولة إسرائيل، ومن دون وضع سيناريوهات دقيقة لكافة ردود الفعل المحتملة.
وقعت الدبلوماسية العربية فريسة للمزايدات السياسية ومضت وراء الخطاب الاعلامي التعبوي والمستهلك الذي رسمته إيران ودول اقليمية أخرى من دون أخذ زمام المبادرة وتحمل المسؤولية والاكتفاء بأن الدور الأمريكي يمكن أن يضغط على دولة إسرائيل لوقف عملياتها العسكرية في قطاع غزة.
السؤال الذي يمكن أن يطرحه البعض هو: ماذا كان بإمكان العرب فعله للحيلولة دون تدهور الموقف كما هو حاصل؟ الجواب يبدأ وينتهي عند تسمية الأمور بمسمياتها الفعلية وتحمل المسؤولية السياسية وعدم ترك الشعب الفلسطيني فريسة لقرار حركة "حماس الإرهابية" التي توهمت بحمق واضح وبيّن طيلة الأشهر الماضية أنها قادرة على اخضاع دولة إسرائيل عسكرياً ولا أدري شخصياً وبدون مبالغة كيف يمكن لتنظيم أو ميلشيا، مهما كانت قدرته العملياتية وما يمتلكه من عتاد، هزيمة جيش بحجم الجيش الإسرائيلي بما يمتلك من خبرات ومعدات ودعم دولي، ونتيجة هذا الوهم المرضي المتفشي في عقليات قيادات حماس الإرهابية هو مانراه الآن يحدث من مآسي في قطاع غزة وسط شلل تام وإرباك غير مسبوق لجميع الأطراف.
أخطأ العرب حين تركوا هذا المعتوه (كما عرف عنه في فترة سجنه) يحيى السنوار يدير أكبر أزمة في التاريخ العربي المعاصر، ويتحكم في مصير سكان قطاع غزة ويتخذهم رهائن لمحاولة تحقيق انتصار وهمي على دولة إسرائيل، والنتيجة أن المزيد من الضحايا الفلسطينيين وأيضاً من المخطوفين الإسرائيليين، يقعون موتى كل يوم جراء عدم تحقق شرط "السنوار" الخاص بوجود ضمانات مكتوبة بوقف نهائي لإطلاق النار وعدم تجدد الهجوم الإسرائيلي عقب انتهاء الهدنة المقترحة في جولات المفاوضات المتعاقبة بين القاهرة والدوحة.
هناك أطراف اقليمية غير عربية لعبت ورقة "حماس الإرهابية" كي تحقق مكاسب استراتيجية، ولكن هذا حدث كجزء من ملء فراغ استراتيجي نتج عن غياب أي دور عربي فاعل في الأزمة، بل إن بعض العرب استغلوا الأزمة في تأجيج المشاعر وتصفية الحسابات السياسية مع بعضهم الآخر، بزعم الاصطفاف إلى جانب المحاصرين في غزة، حتى أن الأوراق اختلطت بين من يقف متفرجاً، ومن يبذل جهوداً حقيقية على الصعيدين الانساني والسياسي.
ليس في الإمكان أبدع مما كان، هكذا يعتقد الكثيرون في عالمنا العربي بالنظر إلى تجارب عديدة سابقة، ولكن الحقيقة أنه كان هناك مجال لمواقف عربية جماعية تضع الأمور في نصابها وتتصدى للمزايدين والمتصيدين في المياه العكرة ومحترفي خلط الأوراق من الميلشيات، التي تدخلت في الأزمة باسم العرب لتضر بمصلحة الفلسطينيين والعرب معاً، وكان من المفترض ان يتم الضغط على تلك القيادات الخارجية لوضع حد للأزمة.
أخطأ العرب المعنيون في تقدير حجم الغضب والإصرار الإسرائيلي على مواصلة الحرب في قطاع غزة، وكذلك أخطأ حلفاء إسرائيل الغربيين، واكتفى الجميع بترديد الفكرة القائلة بأن رئيس الوزراء نتنياهو هو من يريد مواصلة الحرب من أجل انقاذ مستقبله السياسي، ولكن ماذا عن بقية الساسة والقادة الإسرائيل مثل وزير الدفاع يوآف غالانت وغيره من اليمين المتشدد، ولماذا فشل الجميع في فهم السيكولوجية الإسرائيلية والتفاعلات الجارية في الداخل الإسرائيلي والاكتفاء بالرهان على تظاهرات أهالي الأسرى دون بقية المتغيرات المؤثرة التي تموج بها الساحة الإسرائيلية التي تعاني أزمة هي الأعقد في تاريخ البلاد.
ماسبق دلالة ان هناك أخطاء استراتيجية عديدة ترتكب، وونحن هنا بصدد التركيز على الاخفاقات العربية التي بدأت من الانسياق للخطاب الشعبوي والعاطفي القديم والمتداول وتجاهل خطر ترك الأزمة للقرار الأحمق الحمساوي للتحكم في مصير سكان غزة، ومنذ متى كان للميلشيات المعتوهة حرية إتخاذ القرارات التي تورط شعوبها والشعوب الأخرى في مجازر وبدون ان تعاقب.
ظلت حماس الإرهابية ورعاتها يراهنون على إحراج دولة إسرائيل وابقائها تحت الضغط الدولي، حتى فقدت الحركة الإرهابية جميع أوراقها تقريباً ولم تعد ورقة الأسرى المستهلكة على الدرجة ذاتها من القيمة النسبية التي كانت عليها في بدايات الأزمة بسبب وفاة الكثير من المخطوفين والشكوك التي تحوم حول مصير آخرين، وبات القرار بيد دولة إسرائيل لتفرض الواقع الذي تريد في قطاع غزة.