في خضم تقارير إعلامية غربية كثيرة تناقش سيناريوهات اليوم التالي لانتهاء حرب غزة، نلحظ أن جميع الخيارات المطروحة هي خيارات صعبة ومعقدة، وأن وضع خطط واستراتيجيات لإدارة مرحلة مابعد الحرب ليس بالمسألة التي يتخيلها البعض، فكل الأطروحات المعروضة للنقاش داخل الغرف المغلقة وخارجها تنطوي على مواقف متضاربة وبعضها يحتاج إلى ما يشبه المعجزة لتحقيقه.
باعتقادي أن أعقد النقاط التي تواجه النقاش حول ما بعد الحرب تكمن في مصير قطاع غزة سواء من حيث الإدارة المدنية أو التبعية الأمنية، باعتبار هذه النقطة أحد الحواجز التي يتعين عبورها وصولاً إلى تحديد أولى خطوات الحل أو التسوية السياسية للقضية الفلسطينية برمتها.
الشواهد تقول أن إسرائيل لن تتخلى ببساطة عن القطاع ليكون جزءاً من دولة فلسطينية مستقلة، لاسيما إن لم تنجح بشكل واضح ومؤكد في استئصال التنظيمات المتطرفة والقضاء على قادتها العسكريين والسياسيين، وتلك مسألة لم يزل من غير الواضح امكانية تحققها بشكل نهائي في ضوء المؤشرات الواردة من أرض الواقع وساحات الصراع الميداني.
ثمة نقطة أخرى تتعلق بالإدارة الأجنبية المشتركة للقطاع وهي فكرة تبدو اقرب إلى الخيال، فلا أحد من الدول العربية والإسلامية يمكن أن ينخرط في خضم هذا الصراع وسط شواهد الفشل التي تحاصر هذا السيناريو.
هناك أيضاً فكرة اسناد إدارة القطاع للسلطة الفلسطينية، وهي الفكرة التي تحظى بأكبر قدر من القبول الدولي والاقليمي، شريطة إدخال بعض الإصلاحات على الهياكل الحالية للسلطة، وهو أمر يبدو منطقياً من الناحية الشكلية، ولكن من الصعب تحقيقه على أرض الواقع سواء في ظل الانقسامات الفلسطينية ـ الفلسطينية، أو تجذر المعضلات التي تعانيها السلطة نفسها كالفساد وضعف القدرات والترهل الفكري والإداري، لدرجة يصعب معها تخيل امكانية إجراء إصلاحات مقبولة وفقاً لبرنامج زمني معقول.
قناعتي أن المعضلة الأكثر تعقيداً هي كيفية إجتثاث الفكر الحركي المتطرف من الشارع الفلسطيني، حيث تتجذر أيديولوجية التنظيمات المتطرفة بدرجة يصعب معها بناء تصورات واقعية حول تعديل الثقافة السائدة باتجاه التعايش والاعتدال خلال فترة وجيزة، لاسيما في ظل تفاقم الظروف والأوضاع المعيشية البائسة، وهو ما يتطلب عملاً مستمراً ومضنياً على مراحل زمنية لتحسين هذه الأوضاع والانتقال إلى مرحلة تهيئة الظروف وإعادة تشكيل الاتجاهات وتغيير القناعات كي يتسنى القضاء تدريجياً على الفكر المتطرف والعنف، بافتراض توافر الظروف الملائمة لتنفيذ هذه الأجندة.
الواقع يقول أن هناك بون شاسع في التفكير بشأن مستقبل قطاع غزة بين الكثير من شرائح الداخل الإسرائيلي، وما يُطرح اقليمياً ودولياً، والمسألة هنا قد لا تتعلق بتوجهات حكومة نتنياهو فقط بل تطال مجمل اليمين الإسرائيلي، الذي يستشعر القلق من احتمالية تكرار هجوم السابع من أكتوبر، ويرى في استنساخ سيناريو ضم مرتفعات الجولان كجزء من إسرائيل حلاً للوضع في قطاع غزة، ويرون في خطة فك الارتباط إحادي الجانب مع القطاع الفلسطيني في عهد شارون خطأ استراتيجي لا يمكن السماح بتكراره، وكانت له تداعيات "مأساوية" انتهت بالهجوم الكارثي، وهي مخاوف يمكن تفهمها في ظل ماحدث في هذا اليوم وتأثيراته الكارثية على الوعي الجمعي الإسرائيلي.
الواقع أيضاً أن نقاش اليوم التالي بات محكوم بمعادلة لا يمكن القفز عليها، وهي ارتهان الدول الخليجية المانحة لإعادة إعمار غزة خطط التمويل بوجود أفق ومسار واضح لا تراجع عنه لاقامة دولة فلسطينية، وهنا تبدو المعضلة فارقة، حيث يتعين رأب هذه الفجوة من أجل الحصول على تمويل لوضع القطاع على مسار استئناف الحياة مجدداً، وهذه بدورها خطوة لازمة للحديث عن امكانية استئصال جذور ثقافة العنف والتطرف داخل قطاع غزة نهائياً.
بلاشك أن الوضع الراهن ملىء بالتحديات والأيام قد تكون حبلى بالمفاجآت، فلا أحد يفكر في مصير نحو مليوني فلسطيني هم عدد سكان القطاع في ظل الدمار الحصل وانقطاع كافة سبل الحياة، وكيف يمكن إدارة شؤون هذا العدد الهائل من البشر وتدبير حياتهم لفترة غير معلومة من الزمن لحين انتهاء إسرائيل من تدابيرها الأمنية الخاصة بالقضاء على الانفاق وتطهير كافة أراضي القطاع من البنى التحتية العسكرية الخاصة بالتنظيمات الفلسطينية، مع توافر نية الانسحاب من القطاع عقب اتمام هذه الإجراءات وهو أمر لا يزال موضع شك عميق!
التدمير الحاصل في قطاع غزة قد يعني تأخير فرص التسوية السلمية للقضية الفلسطينية، وتأجيل السلام لحين التوصل إلى حلول للقضايا الانسانية والاغاثية المرتبطة بسكان القطاع، ولكن ينبغي الانتباه إلى أن الضغط المتواصل على هذا العدد الهائل من سكان القطاع وحشرهم في زاوية ضيقة في رفح قد يولد أزمات وتوترات جديدة على الحدود المصرية، وقد يفرز معضلة استراتيجية لأطراف إقليمية أخرى، وهذا هو المسكوت عنه في نقاشات ملف غزة حتى الآن.
بلاشك أن الحل يبدأ من الاستماع لصوت العقل حيث لا بديل عنه في مثل هذه الظروف، وأنه لا بد من الاعتراف بأن غياب الأمل وأي أفق في المستقبل هو هدية مجانية ثمينة تقدمها إسرائيل لتنظيمات التطرف، التي اقتات منذ سنوات طويلة على أمرين مهمين أولهما غياب أي أفق للتسوية، وثانيهما يتعلق بغياب البديل على الساحة الفلسطينية، فليس سراً ما تستشعره شريحة كبيرة من أبناء الشعب الفلسطيني تجاه قيادة السلطة، وهو شعور لا يزال قائماً.
العمل الحقيقي نحو السلام لا يجب أن يركز على الحكومات والقيادات، بل يجب أن ينظر إلى توجهات الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، فهناك انقسامات شعبية كبرى نتابعها في استطلاعات رأي منشورة حول أمور مثل حل الدولتين، ولكن قناعتي أن هذه توجهات وقتية بحكم تأثير الأزمة الراهنة، ويمكن تعديل هذه القناعات من خلال تكثيف الجهد والتركيز على المستقبل.
في ضوء كل ماسبق، يتعين على إسرائيل أن تنظر بعقلانية شديدة إلى مجمل تفاصيل الصراع، وأن تدرك أن السبيل الوحيد للعيش بسلام هو ترسيخ مبادىء العيش المشترك بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، إذ لا سبيل في هذا الصراع لإقصاء الآخر أو تهميشه، ناهيك عن القضاء عليه واستئصال جذوره.