الشواهد جميعها تقول أن إسرائيل وحركة حماس تحتاجان إلى وقف لإطلاق النار بغض النظر عن المسمى الذي يمكن تحقيق ذلك من خلاله سواء كان هدنة مؤقتة أم وقف دائم لإطلاق النار، فالجانبين يتعرضان لخسائر كبيرة في الأفراد ويصعب عليهما مواصلة القتال في ظل ظروف ميدانية وجوية صعبة للغاية. ورغم هذه المعطيات التي يدركها كل طرف جيداً فإن هناك صعوبات على صعيد المفاوضات، حيث يسعى كل طرف إلى صفقة سياسية بالدرجة الأولى.
من الجانب الإسرائيلي، هناك ضغوط هائلة على حكومة نتيناهو لاستعادة الرهائن، حيث تحول هذا الملف إلى معضلة كبرى تتعارض مع بقية خطط الحكومة فيما يتعلق بالتعامل مع حركة حماس، التي تدرك من جانبها هذا الأمر جيداً وتستغل هذه الورقة بشكل جيد إعلامياً في تصعيد الضغوط الداخلية على نتنياهو واعضاء حكومته.
الخلاف الأعقد برأيي يتمحور حول صيغة وقف لإطلاق النار وهل هو هدنة أم وقف نهائي لإطلاق النار وهي بالفعل نقطة محورية للغاية، لأن حماس تدرك أن استئناف القتال بعد أي هدنة يتم خلالها تسليم اعداد جديدة من الرهائن، تعني إضعاف موقف الحركة مقابل تعزيز موقف الجيش الإسرائيلي، ولذلك فهي تضغط بكل قوة من أجل الحصول على كل شىء أو على الأقل تحقيق أقصى المكاسب التفاوضية، ولاسيما ما يتعلق بمصير قادة الحركة.
تدرك حماس أيضاً أن نقطة القوة لديها الآن تكمن في الرهائن، وأن أي صفقة تفضي إلى تسليم هؤلاء الرهائن بشكل كامل، تعني بالمقابل انكشاف الحركة امام الضغوط العسكرية الإسرائيلية، حيث تنعدم تماماً أي خطوط حمراء للعمل العسكري الإسرائيلي ضد الحركة في كل مناطق القطاع من دون استثناء، وبالتالي فهي تتمسك بكل قوة بمسألة الوقف النهائي لإطلاق النار.
على الجانب الآخر، تتمسك إسرائيل بفكرة الهدنة أو الهدن القابلة للتمديد وفقاً للظروف، على أمل استعادة الرهائن بشكل كامل، ومن ثم إطلاق يد الجيش الإسرائيلي في العمل ضد حركة حماس من دون قيود.
في ضوء ماسبق برزت خطة ألـ"90 يوماً" التي تداولتها تقارير إعلامية غربية في الآونة الأخيرة، وهي خطة قائمة على ثلاث مراحل يتم خلالها إطلاق سراح رهائن مقابل الإفراج عن سجناء فلسطينيين، وفقا لنسبة متداولة تفوق المعدلات التي تم التوافق عليها في الهدن الأخيرة وهي ثلاثة فلسطينيين لكل إسرائيلي، باعتبار أن المراحل المقبلة تتضمن جنديات إسرائيليات في المرحلة الثانية، ثم جنود في المرحلة الثالثة والأخيرة.
الانقسام في المواقف الآن ربما يبدو متسعاً، ولكن الضغوط الواقعة على طرفي الأزمة ولا سيما ما يتعلق باستمرار القتال لأكثر من مائة يوم، يمكن أن يسفر عن انحسار تدريجي للتشدد، ولكن علينا ـ كمراقبين ـ الحذر في بناء توقعات ايجابية لأنه في ظل غياب أي تصورات واضحة لدى طرفي الصراع حول مرحلة مابعد الحرب، تصبح مواصلة القتال مسألة لا مناص عنها، لاسيما بالنسبة للجانب الإسرائيلي الذي يصعب عليه القبول بفكرة وقف نهائي لإطلاق النار من دون تنفيذ الهدف الاستراتيجي الأساسي الذي وضعه لهذه الحرب وهو استئصال حركة حماس من قطاع غزة، وبالتالي القضاء على أي مصدر تهديد أمني محتمل لإسرائيل ومنع فرص تكرار حدوث هجوم السابع من أكتوبر.
المعضلة أن استمرار هذه الحرب لم يعد شأنا إسرائيلياً ـ فلسطينياً فقط حيث تتسع جبهة هذه الحرب بشكل تدريجي لتشمل بؤر أخرى لا تقتصر على باب المندب بل تشمل العراق وسوريا ولبنان، كما أن نهايتها لم تعد كذلك شأنا ثنائياً بل باتت شأنا إقليمياً ودولياً، حيث تترقب الأطراف الاقليمية نهاية هذه الحرب باعتبار هذه النهاية ستكون بداية لمرحلة أخرى من الصراع الاقليمي بين الاعتدال والتطرف.
بلاشك أن اعتقاد كل من طرفي الصراع بامكانية حسم الصراع الوجودي لمصلحته يعقد فرص التوصل إلى حلول لانهاء هذه الحرب، ولاسيما في ظل استشعار كل منهما للمخاطر التي تترتب على انتهاء الصراع العسكري الراهن من دون حسم، فضلاً عن أن الاحساس بالتهديد يغذي التوجه نحو استمرار الحرب بالنسبة لإسرائيل، كما أن الخوف من المصير المجهول من ناحية واغراء الانفراد بقيادة الموقف الفلسطيني من ناحية ثانية يغري حماس بمواصلة القتال مهما كانت الخسائر في صفوف المدنيين.
مشهد الصراع العسكري الدامي في غزة مرشح للاستمرار ويتحول تدريجياً إلى حرب استنزاف لا نهاية لها بحكم طبيعة هذا النوع من الصراعات غير التقليدية، التي لم يحقق أي جيش في العالم بما في ذلك الجيش الأمريكي، نصر عسكري حاسم فيها، ما يجعل من الصعب بناء تصور متماسك حول نهاية منطقية وشيكة لهذه الحرب.