لا حديث يكاد يطغى على الأحداث المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط سوى حديث التطبيع المحتمل بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، والذي يفرض نفسه على مجمل النقاشات المتعلقة بما يدور في غزة أو بالأوضاع الاقليمية بشكل عام.
مؤخراً قال وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين إن التطبيع مع السعودية ممكن "حتى لو رفضت إسرائيل التحرك نحو قيام دولة فلسطينية"، وفي مقابلة مع صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، اعتبر كوهين أن "المخاوف الأمنية المتعلقة بالمحور الإيراني ستتفوق على مطالب الرياض بأن يكون حل الدولتين جزءا من صفقة التطبيع".
في تصريحات الوزير الإسرائيلي بعض من الواقعية مثل قوله إن "السلام مع السعودية أمر وارد تماماً"، وهو أمر أكدته القيادة السعودية، ولم يطرأ على هذا الموقف الاستراتيجي تغيير يذكر، باعتبار أن ارتهان تطبيع العلاقات مع إسرائيل بمسار تسوية واضح للقضية الفلسطينية هو موقف سعودي ثابت من قبل اندلاع الحرب في غزة.
علينا قبل مناقشة الموقف السعودي الحالي الذي يرتهن تطبيع العلاقات مع إسرائيل بايجاد مسار واضح للتسوية السياسية للقضية الفلسطينية، أن نتذكر حديث ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع قناة "فوكس" الأمريكية، وهو الحديث الذي جاء قبل أشهر قلائل من اندلاع الحرب في غزة، و يمثل مرجعية مهمة للموقف السعودي بشأن اتفاق السلام المحتمل، حيث قال سموه وقتذاك "بالنسبة لنا فإن القضية الفلسطينية مهمة للغاية، نحتاج إلى أن نحل تلك الجزئية، ولدينا مفاوضات متواصلة حتى الآن، وعلينا أن نرى إلى أين ستمضي، نأمل أن تصل إلى مكان تسهل فيه الحياة على الفلسطينيين وتدمج إسرائيل في الشرق الأوسط"، وهو موقف ثابت وواضح ولا يزال هو الإطار الحاكم لمجمل المواقف السعودية رغم كل ما يتم تداوله من تكهنات وتخمينات في هذا الشأن، وهو الموقف الذي عبر عنه مؤخراً وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان، حين أكد أن أن التطبيع مع إسرائيل "لن يتم دون حل طويل الأمد للقضية الفلسطينية"، ومن قبله تصريح سفير السعودية لدى المملكة المتحدة الأمير خالد بن بندر آل سعود الذي قال فيه إن الرياض "منفتحة على إقامة علاقات مع إسرائيل، إن كانت جزءا من حل الدولتين".
هذا المسار الواضح والدقيق من التصريحات والمواقف يؤكد أنه لا تغير طرأ على توجهات المملكة العربية السعودية، التي ترى الصورة بشكل واضح تماماً من قبل اندلاع الحرب، وتدرك أن تسوية القضية الفلسطينية هو الركيزة لبناء سلام حقيقي مع إسرائيل.
ولاشك أن الحديث عن السياسة الخارجية السعودية سواء فيما يتعلق بإيران أو إسرائيل، ينبغي أن يراعي التغيرات والتطورات الاستراتيجية الحاصلة، ولا يقفز إلى استنتاجات قائمة على معطيات قديمة، ونقصد أن بناء تقديرات تتصل بالموقف السعودي تجاه إيران يجب أن يراعي استئناف علاقات التعاون بين البلدين الجارين، وان يفهم جيداً مغزى عدم مشاركة المملكة العربية السعودية في تحالف "حارس الازدهار" الذي تقوده الولايات المتحدة للتصدي للتهديدات التي تتعرض لها الملاحة البحرية في البحر الأحمر، وهذه مسألة مهمة للغاية بالنسبة للمملكة، ولكن هناك أولوية استراتيجية سعودية ملّحة أخرى تتعلق بتبريد الأزمات وتهدئة الأجواء الاقليمية.
في ضوء ماسبق، يمكن فهم التوجه السعودي نحو ضمان الأمن والاستقرار الاقليمي والدولي، في إطار التعاون مع الجميع دون الانخراط في تحالفات أو محاور، ومن الواضح أن السياسة الخارجية السعودية باتت أكثر اعتمادية على الذات في المقام الأول، ثم على بناء شبكة قوية من الشراكات مع القوى الدولية الكبرى من أجل تنويع خياراتها الاستراتيجية في مختلف المجالات العسكرية والاقتصادية والأمنية والتجارية وغيرها، وبالتالي لم يعد من الممكن الحديث عن مسار أحادي للتحالفات السعودية، وهذا لا ينفي أن المملكة العربية السعودية تحرص على التعاون مع الجميع إقليمياً ودولياً في إطار رغبة حثيثة لتحقيق أقصى مردود من استراتيجيات التعاون والشراكة وصولاً إلى تحقيق الأهداف الطموحة لرؤية المملكة 2030.
التوجه السعودي نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل يماثله في الوضوح موقف المملكة تجاه المساهمة في إعادة إعمار غزة، وقد لفت انتباهي تصريح الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية الذي قال فيه "لا معنى للحديث عن إعادة إعمار غزة إذا كنا لا نريد أن نتحدث عن وقف القتل"، وأضاف "مرة أخرى، طالما أننا قادرون على إيجاد طريق إلى الحل والطرح..المسار الذي يعني أننا لن نعود إلى هنا مجددا في غضون عام أو عامين، فيمكننا أن نتحدث عن أي شيء، ولكن إذا كنا نعيد ضبط الوضع الراهن إلى ما قبل 7 أكتوبر بطريقة تؤهلنا إلى جولة أخرى من هذا الصراع، كما رأينا في الماضي، فنحن لسنا مهتمين لهذه المحادثة"، واعتقد أنها المرة الأولى التي تكون فيها المواقف الخليجية بمثل هذا الوضوح والصراحة والمكاشفة مع الدول الصديقة من أجل تحقيق الأمن والاستقرار الحقيقي، وهو حديث يعكس التغيرات الجذرية التي طرأت في السنوات الأخيرة على السياسة الخارجية لدول مجلس التعاون بشكل عام، والمملكة بشكل خاص.
ربط عملية التطبيع السعودية ـ الإسرائيلية بتسوية القضية الفلسطينية، يعبر عن رغبة حقيقية في إقامة علاقات سلام جدية مع إسرائيل، من خلال توفير الأساس القوي لهذه العلاقات، وهو البيئة الإقليمية المواتية التي تضمن تحقق هذا الهدف من دون التأثير سلباً في مصالح المملكة العربية السعودية ومكانتها الاستراتيجية الكبيرة في العالمين العربي والإسلامي، ومالها من دور قيادي مؤثر على هذا الصعيد، ناهيك عن التزام المملكة على مدار العقود الماضية بدعم الشعب الفلسطيني.
الموقف السعودي في مسألة التطبيع هو موقف قائم على العقل والمنطق ويعبر عن قناعات استراتيجية للقيادة السعودية؛ فالسلام من دون التوصل إلى مقاربات وحلول تضمن تسوية للقضية الفلسطينية، أقرب إلى أن يكون بمنزلة هدية مجانية للمزايدين وتجار السياسة ناهيك عن تنظيمات الارهاب والتطرف التي تقتات على شعارات الدفاع عن فلسطين وشعبها، وبالتالي فإن من مصلحة السعودية وحتى إسرائيل نفسها تحقيق اختراق نوعي لايجاد مناخ سلام اقليمي حقيقي، فضلاً عن بناء ثقافة تعايش وضمان الأمن المشترك للشعبين الإسرائيلي والفلسطيني.