توظيف القضية الفلسطينية لمصلحة تحقيق أهداف استراتيجية إيرانية، مسألة ليست جديدة بالنسبة للمراقبين والمتخصصين، ولكن محاولات "سلخ" القضية من إطارها العربي وحتى الإسلامي، وتحويلها إلى قضية إيرانية صرفة، هو ما تحاول الأذرع الإرهابية الإيرانية الترويج له خلال الفترة الأخيرة، ومن أبرز شواهد ذلك ما ورد في الخطاب الذي وجهه الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله، إلى الملتقى الدولي الثاني عشر الذي عقد في طهران مؤخراً تحت شعار "غزة رمز المقاومة".
في خطابه الذي تلاه ممثل الحزب في العاصمة الإيرانية، يقول نصر الله إن "ما خسرته إسرائيل حتّى اليوم في غزة من ضباط وجنود على أيدي مجموعات المقاومة الفلسطينية يتجاوز بأضعاف كثيرة ما خسرته في حرب الـ67، فالجيش الإسرائيلي الذي احتل في حرب الأيام الستة أكثر من 69000 كلم2، يُهزم اليوم على جزء من مساحة غزّة"، ساعياً بوضوح إلى التشكيك في كفاءة الجيوش العربية مقارنة بأذرع المقاومة الإرهابية، متجاهلاً الفوارق الكبرى بين المواجهات بين الجيوش النظامية، وتلك التي تخوضها أعتى الجيوش المتقدمة ضد ميلشيات وتنظيمات في إطار حروب غير تقليدية لها حساباتها ومعاييرها وقواعدها التي تحتلف جذرياً عن الصراعات التقليدية.
مثل هذه النقاط التي تروج لها الميلشيات الإرهابية لا تطعن فقط في الجيوش الوطنية، ولكنها تمثل كذلك طعناً مباشراً في الدولة الوطنية، فالميلشيات تقدم نفسها باعتبارها بديلاً للدولة، وهذا مانراه في لبنان واليمن وحتى الأراضي الفلسطينية حيث تصر "حماس" على احتكار السلطة في قطاع غزة اعتماداً على نتائج انتخابات جرت منذ نحو عقدين من الزمن!
المسألة تمتد لتشمل المتاجرة بدماء الأبرياء من الشعب الفلسطيني، فالحديث عما يعرف بالمقاومة ، وشعارات الصمود والشموخ والانتصار وغير ذلك لا يجب أن يكون معزولاً عن انهار الدماء التي سالت وعشرات الآلاف من الأسر المشردة والنازحة، والكم الهائل من المعاقين جراء الإصابات في الحرب، فضلاً عن غياب الاحساس بالأمان وتلاشي الأمل في المستقبل لأطفال غزة الذين يستحقون أن يعيشوا كأمثالهم من أطفال العالم، ولا يفترض مطلقاً أن يملى عليهم أن يكون كأطفال هؤلاء المخدوعين بشعارات تعبوية كاذبة يفضح الواقع حقيقتها.
الحقيقة الوحيدة التي قالها نصر الله في كلمته هذه أن ما يعرف بعملية "طوفان الأقصى" قد جاءت "لتخلط كل الأوراق ولتبدل كل الحسابات"، فهي بالفعل خلطت وبدلت وأربكت بل واعادت الأمور إلى مربع الصفر في بعض النقاط، ويكفي أن هناك نحو مليوني فلسطيني باتوا يواجهون مصيراً مجهولاً، ولا أحد ينظر لوضع هؤلاء ولا سبل معيشتهم، عدا الدول التي يتهمها هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم صفة"المقاومون" بأن الدول العربية "خانت" القضية!، ولا ندرى ماذا فعل نصر الله وأمثاله ومموليه لهؤلاء النازحين سوى صب الزيت على نار الحرب من أجل أن تستمر وأن تتواصل معاناة هؤلاء من أجل أن تبقى هذه الزعامات الكرتونية في دائرة الضوء وأن تتهافت على تصريحاتها الميكروفونات والفضائيات!
نعم خلط الهجوم الدموي لحماس على إسرائيل الأوراق، سواء في إسرائيل أو بدرجة أشد وأقسى بالنسبة للقضية الفلسطينية، ومن ينكر ذلك فعليه أن يخبرنا بتصور واحد قابل للتحقق حول مصير نحو مليوني نازح دمرت معظم بيوتهم ومدارسهم ومستشفياتهم.
فارق كبير بين أن تكون عقلانياً وتدافع عن قضيتك بعقلك قبل يدك، وبين أن تكون منقاداً بلا تفكير يسبق ذراعك عقلك، والنتيجة واضحة، نصر كبير لنصر الله ورفاقه الذين سيملئون الدنيا ضجيجاً بشعارات النصر وهزيمة العدو وسحق الغطرسة متجاهلين الثمن الهائل الذي دفع لتحقيق أحلامهم وتوفير لحظة انتصار وهمي لهم.
يقول نصر الله أن الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة وبريطانيا، مزق منطقتنا بالطائفية والعنصرية والمذهبية، وكأنه يتحدث عن مموليه ويلقي بما فعلوه على آخرين، والكل يعرف من أحيا الطائفية والفتن المذهبية من مرقدها ومن قام بالتلاعب بالتركيبة الديموغرافية على أساس طائفي، واستغلها أسوأ استغلال لتدمير وتفتيت وتفكيك دول عربية عدة من أجل تحقيق أحلامه وطموحاته التوسعية، ويكفي أن ما يسمونه بمحور المقاومة هو بالأساس محور طائفي لم يكن ليقبل بانخراط حركة "حماس" تحت رايته سوى لأنها توفر له الغطاء الذي يحتاجه بشدة للتدخل في القضية الفلسطينية.
"محور المقاومة" هو محور دمار شامل، لا يعرف العيش بسلام ويرى سبيلاً للحياة سوى عبر القتل والدمار ونشر الفوضى والحروب وسفك الدماء، فلا تجد أي تلميح أو تصريح عن سبلاً للحياة بل جميعها دروباً للموت، وسط خلط هائل للأوراق وتلاعب بالعواطف ودغدغة هائلة للمشاعر في منطقة تتنفس وتقتات على الشعارات، حيث يقول نصر الله أن "دماء شهداء نصرة غزة في لبنان، ودماء شهداء نصرة غزة في سوريا ودماء نصرة غزّة في العراق، ودماء شهداء نصرة غزة في اليمن، ودماء شهداء نصرة غزّة في إيران، والتي كان آخرها دماء اللواء السيد رضي الموسوي، كل هذه الدماء تتوحد وتلتحم وتتكامل مع دماء شهداء غزة والضفة الغربية"، ولا ندرى ما علاقة موسوي بما يحدث في غزة وقد انكر الجانبان الحمساوي والإيراني أي علاقة في هذا الشأن؟ الحقيقة التي لا لبس فيها هي أن منطقة الشرق الأوسط بحاجة ملحة للتخلص من هذه التشوهات الجيوسياسية، التي فرضتها الميلشيات الإرهابية على مجمل المشهد الاقليمي، ومن دون ذلك يصبح أي حديث عن الأمن والاستقرار الاقليمي عبث في عبث، حيث لا يجب أن تكون شعوب المنطقة رهن إرادة إيران ووكلائها، ورهن مخططهم وتصوراتهم لتحقيق أهدافهم التي لا تستثني أحداً من العداء والصراع والمواجهة الآنية والمحتملة.